نبض البلد - " العنف الجامعي" : حصاد اليأس العشائري والإداري! كيف حوّلت "المحاصصات" و "فيضان الكراسي" الحرم إلى مرآة لـ "يأس الشارع
د. دانا خليل الشلول
على الرغم من مرور الوقت، يبقى ملف العنف الذي تشهده جامعاتنا جرحاً مفتوحاً لا يجوز له أن يندثر أو يذهب طي النسيان، بل يجب أن يظل حياً كقضيّةٍ وطنيّة تتطلب عملاً مستمراً، فإنَّ ما نراه ليس عنفاً جامعياً؛ فالجامعة بريئة من هذه التسمية، بل هو عنف مجتمعي واقتصادي عميق تم تصديره إليها وهي منه براء، كما أنَّ إطلاق وصف 'جامعي' هو تبرئة غير مقصودة للمجتمع والأسرة اللذين صدّرا هذا السلوك إلى داخل الحرم؛ فالجامعة هي في الحقيقة مرآة شفافة تعكس التحديات والإحباط المتراكم في الشارع والبيت، حيث يجد الشباب الغاضب بيئة خصبة لتحويل العصبية والإقصاء إلى فعلٍ على أرض الواقع.
في حين أنَّ معالجة هذه الظاهرة لا تكون بقطع الفروع داخل الحرم، بل بمعالجة الجذور العميقة في تربة الثقافة المجتمعية والإدارية.
تبدأ مأساة العنف في الجامعات من أسس القبول التي لا تعتمد فقط على الجدارة الأكاديمية، بل تمتد إلى الاستثناءات والمحاصصات التي تُنخر في مبدأ الجدارة وتفرز شعوراً عميقاً بالظلم؛ فهذا التفاوت يُرسّخ قناعة لدى الطالب بأن الانتماء الضيق والقوة هما الوسيلة الوحيدة لإعادة تشكيل ميزان القوى، بدلاً من التفوق الأكاديمي.
فبما يتفاقم هذا الخلل مع ظاهرة الفيضان البشري والاكتظاظ الطلابي الهائل، حيث تستوعب الجامعات أعداداً تفوق بكثير طاقتها الاستيعابية المعهودة، وتكتظ القاعات والمختبرات والمرافق الأساسية؛ حيث أنَّ هذا الاكتظاظ يضغط على جودة التعليم ويخلق بيئة تتسم بـالتنافس السلبي على الموارد المحدودة، مما يضاعف من احتمالات الاحتكاك الحاد، ويرافق هذا الفيضان التوسع غير المدروس في الكليات والتخصصات الذي يضعف الهوية الأكاديمية للجامعة ويقلل من احترام الطالب لمؤسسته. وعلى النقيض، نرى أن الجامعات التي حافظت على معاييرها النوعية والجودة في القبول، تظل أقل عرضة للعنف لأنها عززت قيمة التفوق والانضباط،
هذا الاكتظاظ يتكامل مع التوزيع الجغرافي الذي يكرّس تجميع العصبية داخل الحرم؛ فغياب التوزيع المدروس يتيح للطلبة التكتل حول أبناء مناطقهم، مما يمنع التلاقح الثقافي الضروري لبناء هوية وطنيّة جامعة، ويُبقي الولاء للجهة الضيقة هو المسيطر، وعندما تندلع أي مشكلة فردية، فإن هذا التكتل العشائري يضمن الاستجابة السريعة والعنيفة على أسس جهوية، مما يحوّل الخلاف البسيط إلى صراع واسعٍ لا ينتهي إلا بمأساةٍ شاملة.
أما قنبلة الغضب والدمار الحقيقية، فتكمن في المنظومة التعليمية التي تعاني من تحديات بنيوية عميقة؛ فالطالب يعيش في يأس اقتصادي متزايد جراء قلة الفرص، ويدرس مناهج تعتمد التلقين وتفتقر إلى مهارات التفكير النقدي اللازمة لمواجهة تحديات سوق العمل، بالإضافة إلى ضعف في معايير تعيين الكادر الأكاديمي، دون تقييم جاهزيتهم النفسية وقدرتهم على احتواء الطلاب وتوجيههم، وامتلاكهم المهارات التي تؤهلهم لإدارة الغرف الصفيّة، ومهارات حل المشكلات.
وفي ذات السياق، نرى غياب لدور عمادة شؤون الطلبة في تفعيل أنشطة هادفة تملأ هذا الفراغ المكبوت الذي يوجّه الطاقة إلى صراع مباشر وعنيف، ويُبقي الشباب الجامعي معزولاً عن القضايا الوطنية الكبرى، حيث إن هذا العجز كله هو انعكاس لـغياب التخطيط الاستراتيجي الفعال والرقابة الناجعة على مستوى الإدارة العليا، ويُكمل المشهد خطاب إعلامي وسياسي سطحي يفشل في توعية الشباب بالتحديات الوطنية بشكل ناقد، مما يتركهم فريسة لخطاب الإقصاء واللامبالاة، ويعزز لجوءهم للعنف كوسيلة وحيدة للتعبير.
البوصلة إلى الجذور... خارطة طريق للإصلاح:
لإنقاذ الحرم الجامعي، يجب تحويل البوصلة نحو الجذور عبر خارطة طريق تنفيذية متكاملة لا تقبل التردد أو الترقيع، حيث يجب البدء بـفك التكتلات الجغرافية عبر سياسات دمج نشطة، تربط الحصول على المنح والمقاعد التنافسية بالدراسة خارج الإقليم، وتدشين برامج تبادل ثقافي إلزامي بين الجامعات لزيادة التلاحم والوعي الثقافي.
كما يجب إعادة بناء العدالة الأكاديمية بالعودة إلى معيار الجدارة المطلقة، وتطوير المناهج للانتقال من التلقين إلى التفكير الناقد، وهنا، يجب إلزام الطلاب بمواد حتمية مثل التربية الإعلامية، والتربية الأخلاقية، ومهارات الحوار وإدارة الغضب، وإحياء المشاريع الوطنية التي اندثرت في هذا المجال. ويتطلب هذا إعادة النظر في مقاييس تعيين الأكاديميين، وضمان فحص جاهزيتهم النفسية وقدرتهم على احتواء الطلاب وتقديم الإرشاد بالتوازي، كما يجب تفعيل دور عمادة شؤون الطلبة لدمج الطلاب في الأنشطة الثقافية والرياضية، وتعزيز الأمن الجامعي في الرقابة الصارمة على الدخول والخروج.
أما في مواجهة العنف، فيجب تفعيل نظام عقوبات رادع وشامل بحزم وشفافية، يكون متدرجاً ومتناسباً مع حجم المخالفة، فهذا النظام يجب أن يعمل بـنظام النقاط السلبية التراكمية، حيث يترتب على تراكم النقاط حرمان المخالف من الامتيازات المالية والإدارية؛ كالقروض والمنح والسكن الجامعي، مع إلزامه بإصلاح كامل ما أتلَفَه من ممتلكات الجامعة أو تعويض الأضرار،
وفي حالة المخالفات الجسيمة التي لا تستوجب الفصل، يمكن استخدام سياسة النقل الإلزامي للإدماج؛ وهنا يُنقل الطالب المخالف إلى جامعة أخرى في إقليم بعيد عن مكان سكنه، لضمان استمرار حقه في التعليم، وإلزامه بالاندماج الثقافي بعيداً عن محيطه العشائري، بدلاً من دفعه إلى الشارع والفراغ؛ ليتعلم عادات سيئة تجعله خطراً على محيطه ومجتمعه، والأهم، ضرورة إلزام الطلاب المخالفين الذين مارسوا العنف داخل الجامعات بالالتحاق ببرامج تأهيل وإصلاح متخصصة، مع عقد اجتماعات إلزامية مع الأهل لإعادة تأهيل الأسر التي يخرج منها هذا العنف وتوعيتها بدورها في الاحتواء، فكل هذا يُتوّج بـمراقبة الخطاب الإعلامي والسياسي العام للحد من لغة الكراهية والإقصاء.
فضلاً عن أنَّ الجامعة بحاجة إلى قرار جريء يكسر حلقات العصبية والإحباط المزمن؛ فبدون علاج الجذور المجتمعية والإدارية، ستبقى الجامعة مرآة تعكس مأساة مجتمع لم يجرؤ على تشخيص مرضه بشكل صادق.