د. خالد العاص
مع كل دورة جديدة لمجلس الأمة، لا يقتصر خطاب العرش السامي على كونه مناسبة دستورية روتينية، بل يتحول إلى لحظة سياسية مفصلية، تكشف عن بوصلة السياسات الوطنية واستراتيجية القيادة في إدارة التحديات الداخلية والخارجية. فهو الوثيقة التي تترجم الرؤية الملكية إلى أولويات عملية، وتعيد التأكيد على أن مسار الدولة لا يُبنى على الصدفة، بل على تخطيط مدروس يوازن بين طموحات الشعب وضغوط الواقع.
في قلب هذا الخطاب، تكمن الأولويات الوطنية الداخلية: الإصلاح السياسي والإداري، تطوير التعليم والصحة، تحفيز الاقتصاد وخلق فرص حقيقية للشباب، وهي محاور تمثل نبض المواطن وتستجيب لتحديات البطالة والفقر المتفاقمة. وفي ظل الضغوط الاقتصادية المتصاعدة، يصبح التركيز على تحسين جودة الحياة للمواطنين أولوية لا تراجع عنها، وهو اختبار حقيقي لفعالية السياسات الحكومية.
على المستوى المؤسسي، يمثل خطاب العرش منصة لعرض مسيرة تحديث الأجهزة الحكومية، وتعزيز الشفافية، ومكافحة الفساد، في سياق مواجهة المطالب الشعبية المتنامية بمحاسبة الأداء العام. كما يؤكد على ضرورة التنسيق بين الحكومة ومجلس الأمة، كشرط لضمان استقرار القرار السياسي وحماية المصلحة الوطنية، في وقت تشهد المنطقة اضطرابات تهدد الأمن الداخلي وتفرض قراءة دقيقة لموازين القوى.
في الشأن الخارجي، يرسخ الخطاب المواقف الأردنية الثابتة، لا سيما دعم القضية الفلسطينية وتعزيز العلاقات مع الشركاء الإقليميين والدوليين، في ظل تحديات جيوسياسية متسارعة وأزمات إقليمية قد تهدد الاستقرار الداخلي. فالخطاب يشكل إعلانًا دبلوماسيًا يوازن بين مصالح الأردن وثوابته الوطنية، ويعكس قدرة القيادة على التقدير الاستراتيجي لمتغيرات المنطقة.
ولا يغفل البعد الإنساني والاجتماعي، إذ يعكس الخطاب التزام الأردن بحماية المواطنين، وتعزيز التضامن الاجتماعي، والارتقاء بخدمات الرعاية الأساسية، وهو ما يبرز دور الدولة في بناء مجتمع متماسك قادر على الصمود أمام الأزمات.
دستوريًا، يمثل خطاب العرش إيذانًا رسميًا ببدء أعمال مجلس الأمة، لكنه أيضًا منصة سياسية استراتيجية، تؤكد أن القيادة الأردنية قادرة على مواجهة التحديات الواقعية، وحماية مسيرة الدولة الديمقراطية، وضمان استمرار التوازن بين السلطات.
باختصار، خطاب العرش السامي ليس مجرد مراسم رمزية، بل هو وثيقة قيادة وطنية، تحمل بين سطورها خريطة الطريق نحو الاستقرار والتقدم، وتضع الأردن على مسار مواجهة الواقع المعقد بعزم ووعي، لتظل الدولة مؤسسة راسخة، ومجتمعها صامدًا، ومستقبلها مستنيرًا برؤية قيادية واضحة.