ما بين التغيرات المناخية وإخفاقات الإدارة وتحوّلات الإقليم: كيف دخل الأردن معركة المياه؟

نبض البلد -
ما بين التغيرات المناخية وإخفاقات الإدارة وتحوّلات الإقليم: كيف دخل الأردن معركة المياه؟
البرفسور عبد الله سرور الزعبي
مركز عبر المتوسط للدراسات الاستراتيجية
في الشرق الأوسط، حيث تتشابك الجغرافيا بالسياسة وتُعاد صياغة موازين القوة باستمرار، لم يعد الماء مجرد مورد طبيعي نادر، بل تحوّل إلى أداة ضغط استراتيجية وورقة نفوذ تُستخدم في صراعات الإقليم. وفي قلب هذا المشهد المضطرب، يجد الأردن نفسه أمام أزمة مائية لم تعد محصورة في حدود الشحّ الطبيعي، بل باتت نتاج تداخل معقّد بين سوء الإدارة، وضغوط إقليمية، وتحولات جيوسياسية عميقة. هكذا، يدخل الأردن اليوم ما يمكن تسميته دون مبالغة معركة المياه الكبرى.
لم يعد الحديث عن الفقر المائي توصيفًا لحالة طارئة، بل واقعًا بنيويًا لدولة دخلت هذا الخط منذ سنوات، وتُصنف بين أفقر دول العالم. ومع اقتراب عدد السكان من 12 مليون نسمة، باتت المياه في الأردن قضية أمن قومي، لا مجرد ملف خدمي أو تقني.
ورغم محاولات اختزال الأزمة في التغير المناخي، تكشف الوقائع أن الإدارة كانت جزءًا أساسيًا من المشكلة. فقد تحوّل قطاع المياه، الذي يفترض أن يكون نموذجًا للتخطيط والانضباط والشفافية، إلى نموذج لإخفاق بنيوي مزمن. قرارات كبرى اتُّخذت رغم التحذيرات، ومشاريع نُفذت دون أثر فعلي، وأموال طائلة أُنفقت بلا عائد حقيقي على الأمن المائي.
يكفي التوقف عند مثال سد الكرامة، الذي أُقيم على فرضيات هيدرولوجية خاطئة رغم التحذير المسبق من القباب الملحية تحت السطح. النتيجة كانت بحيرة مالحة لم تدخل منظومة الأمن المائي، وهددت الأراضي الزراعية المجاورة، بعد إنفاق نحو 55 مليون دينار. المشهد ذاته تكرر في سد وادي بن حمّاد، الذي ابتلع مبلغًا مشابهًا، تحوّل إلى كتلة إسمنتية بلا جدوى رغم وضوح المعطيات الجيولوجية. أما حفر الآبار في مواقع ملوثة أو غير صالحة، كما في خان الزبيب، فكان مثالًا صارخًا على قرارات اتُّخذت مع العلم المسبق بعدم جدواها، وغيرها من القرارات.
هذه المشاريع لم تكن أخطاء هندسية، بل تعبيرًا عن خلل مؤسسي عميق، وتغليب الإنجاز الورقي على السياسات المستندة إلى البيانات، وغياب المساءلة. والنتيجة، تحميل الخزينة أعباء مالية ضخمة دون أثر ملموس على الأمن المائي.
ولا يقف الخلل عند إنشاء السدود والآبار، بل يمتد إلى إدارة الموارد المتاحة، وعلى رأسها ملف الفاقد المائي. فعلى مدى أكثر من عقدين، أعلنت استراتيجيات متعاقبة أهدافًا طموحة لخفض الفاقد من أكثر من 42% إلى 28%، ثم إلى 25% (استراتيجية 2008-2020، واستراتيجية 2016-2025). خلال تلك الأعوام، أعلن عن تنفيذ حزمة مشاريع بقيمة 350 مليون دينار، وبشرنا عندها بانه تم خفض الفاقد المائي الى 35% (عام 2022) ثم تم الإعلان عن تنفيذ حزمة أخرى من المشاريع بقيمة 350 مليون دولار، بدأت المرحلة الأولى منها في عمان عام 2014، لنفاجئ، بان نسبة الفاقد المائي ارتفعت الى ان وصلت 53% في عام 2023.
اليوم، ومع الاستراتيجية الوطنية 2023–2040، يُعلن عن خفض الفاقد إلى 40.9% (كما منشور بتاريخ 22/11/2025)؟ هذا التناقض يفتح أسئلة مشروعة، هل جرى خفض الفاقد فعليًا؟ أم أن الأرقام تعكس تراجع كميات الضخ؟ أم أننا أمام مؤشرات متحركة؟ وهل سيبقى الفاقد المائي المرض المزمن للدولة؟
هذا التناقض يعمّق الشكوك، حول وجود خلل إداري وهيكلي مزمن، تُعاد فيه الدراسات، ومشاريع دون أثر مستدام، ويُستثمر الدعم الدولي لهذا القطاع دون عائد متناسب مع حجمه، في ظل غياب المتابعة والشفافية والمحاسبة. هنا تصبح الأزمة ليست مناخية فقط، بل أرضية، صُنعت بقرارات بشرية، فأصبحت ثغرات استراتيجية سمحت بتفاقم الأزمة.
في هذا السياق الهش، جاء البعد الجيوسياسي ليضاعف التحدي. لنسمع بين الفينة والأخرى عن وقف إسرائيل بتزويد الأردن بالمياه، واخرها ما نشر الأسبوع الماضي، انباء عن إعلان إسرائيل وقف تزويد الأردن بـ 50 مليون متر مكعب من المياه، بالمقابل نجد تصريح رسمي، انه لم يرد للأردن أي قرار من إسرائيل بشأن اتفاق المياه المنصوص عليه ضمن اتفاق السلام 1994.

ولكن لم يتطرق التوضيح للاتفاقية الإضافية، والتي تقضي بتزويد الأردن ب 50 مليون متر مكعب إضافية. فلمياه (50 مليون متر مكعب) الواردة باتفاقية وادي عربه 1994، والتي يدفع الأردن ثمناً رمزياً لها بواقع سنت واحد، هي غير كميات المياه الإضافية، والتي تم التوقيع عام 2010، وتجدد باستمرار الى ان وصلت الى 50 مليون متر مكعب إضافي في اتفاق عام 2021، ويدفع ثمنها بواقع 40 سنت لكل متر مكعب، وتجدد كل فترة (كما علمت من وزير المياه السابق).
خلال السنوات الماضية، استخدمت إسرائيل ملف المياه كورقة ضغط، ولوّحت بوقف الإمدادات في لحظات توتر (منها عند استرداد منطقتي الباقورة والغمر)، وربطت المياه بملفات القدس والضفة الغربية، وأرسلت رسائل سياسية مبطنة.
جاءت حرب غزة لتقلب قواعد اللعبة، والتوازنات الإقليمية، وتكشف هشاشة الردع الإسرائيلي، وتدفع تل أبيب لإعادة صياغة استراتيجيتها، وتعيد تعريف علاقاتها مع جيرانها، والولايات المتحدة تراجع التزاماتها، والضفة الغربية وغزه أصبحت مركز الجغرافيا السياسية الجديد، في إقليم يشهد إعادة تموضع كبرى.
في هذا المشهد، تصبح العلاقة الأردنية–الإسرائيلية عرضة للمد والجزر، وفقًا لتغير الحكومات الإسرائيلية، واستخدام الأدوات الاقتصادية والمائية في لعبة الضغط.
الأردن، يدفع لترسيم العلاقة، وفق مسار يفضي حقا لسلام على أساس حل الدولتين، وعلاقات ثنائية تضمن مصالح الأمن الوطني الأردني. الا ان سلوك حكومة نتنياهو كان دائماً مريبا تجاه الأردن، ومنها ورقة المياه، حيث يتم التلويح بها وفق المزاج السياسي أو الحاجة إلى تسجيل نقاط في ملفات داخلية وخارجية.
ان صح الخبر بوقف كميات المياه الإضافية، فهي ليست لأسباب تقنية، كما أعلن، لا بل فان توقيته، وطبيعته، هي رسالة سياسية بامتياز.
ومع ذلك، فإن هذه الورقة ليست بالقوة التي يُراد تصويرها. فالكميات المهدد بوقفها لا تتجاوز 5% من إجمالي الموارد المائية الأردنية المتاحة، ويمكن تعويضها عبر خفض الفاقد المائي في عمّان وحدها، أو استغلال موارد جوفية من احواض آمنة، كحوض اليرموك (المخيبة)، أو اللجوء إلى حلول تحلية مرنة للمياه في العقبة، ورفع كفاءة استخدام المياه المعالجة، وعدم استخدام المياه الجوفية لأغراض الزراعة في بعض المناطق، وتغيير أنماط الاستخدام الزراعي، او اللجوء إلى حلول نقل المياه، كما كانت تفعل دول مثل سنغافورة وقبرص (من المتوقع ان تصبح عمليات تجارة المياه بالناقلات في المستقبل مثل البترول) وحلول أخرى مكلفة نوعاً ما، مثل اللجوء الى المياه الجوفية العميقة، والتي تحتاج الى معالجة وغيرها من الإجراءات.
كما أن إسرائيل نفسها معنية ببيع فائض مياه التحلية لديها، والسوق الاردني الوحيد امامها، ما يجعل التصعيد أقرب إلى استهلاك سياسي داخلي منه إلى استراتيجية مستدامة. لكن الخطر الحقيقي يكمن في تحويل المياه إلى أداة ابتزاز سياسي، خاصة بعد سيطرة إسرائيل على منابع نهر اليرموك في الأراضي السورية.
المياه بالنسبة للأردن، ليست موضع نقاش فقط بوصفها مورداً حيوياً نادراً بل لأنها جزء من اتفاقية سلام، صممت لتبقى وضامن لاستقرار المنطقة، لا لتكون ورقة ضغط بيد تل أبيب، تحد من قدرة عمّان على المناورة، لحماية مصالح الأردن وامنه القومي. فالأردن، يملك الكثير من الأوراق الإقليمية، ورصيد سياسي كبير في الساحة الدولية.  
وهنا يبرز سؤال أوسع، كيف يمكن لدول الإقليم أن تثق بدولة تهدد شركاءها بوقف المياه أو الغاز، بينما تسعى في الوقت ذاته إلى الاندماج في مشاريع إقليمية كبرى؟
صحيح أن التعاون الإقليمي، كمشاريع الطاقة مقابل المياه أو التحلية المشتركة، والنقل وغيرها، مطلب الدولي واقليمي لكثير من الدول، ولا يمكن للأردن ان يتجاهل الفكرة. لكن التعاون الإقليمي ليس حلاً سحريًا، بل حساسًا، وأكثر تعقيدًا من الناحية السياسية. الا انه يمثل خيارًا مطروحًا.
فالحلول الإقليمية، لن تنجح إلا إذا توفرت شروط اساسية، ضمن اتفاقات محصّنة دوليًا تمنع تراجع أي طرف عنها، وضمانات أمنية وقانونية ومالية، وتنويع الشركاء، وإدخال أطراف دولية كضامنة لتنفيذها مثل الولايات المتحدة، وأوروبا، وربما الصين، وآلية إشراف أممي أو منظمات تنموية كبرى. بغير ذلك، ستبقى مشاريع التعاون الاقليمي أدوات ضغط، لا جسور تعاون.
لكن الحقيقة الأعمق أن الأزمة داخلية بقدر ما هي خارجية. فحتى لو استمرت الإمدادات، فإن العجز المائي يتسع، والفجوة بين العرض والطلب تتفاقم، وحجم الفاقد وحده يتجاوز بأضعاف كميات المياه التي نشتريها أو نفاوض عليها.
الأردن دخل معركة المياه الكبرى، وجزء من سببها، أخطاء إدارية، وتغيرات الإقليم، والجغرافيا التي لا ترحم.
لكن بقدر ما كان الداخل جزءًا من المشكلة، يمكن أن يكون أيضًا جزءًا من الحل. ولكي يخرج الأردن من معركة المياه الكبرى فائزًا، يجد نفسه مضطرًا لإعادة تعريف الأمن المائي كجزء من الأمن القومي، ويكشف ملفات الهدر والمشاريع غير الفعالة، للوقوف على الأخطاء التي ارتكبت بمنتهى الشفافية، ويلتزم بمعايير إدارة المخاطر، لا بأسلوب التجريب، والدخول في تعاون إقليمي محصّن دوليًا.
المياه اليوم جزء من معادلة "من يستطيع أن يصمد، لا "من يستطيع أن يوفّر". وفي مثل هذه الحظة الجيوسياسية الحادة، يصبح الترهل الإداري خطرًا على الأمن القومي نفسه، فمن يخطئ في موقع السد، قد يخطئ في موقع القرار.
في هذا السياق، يبرز دور الملك بوصفه الضامن الأعلى للمصالح الوطنية، حيث تقوم فلسفته في إدارة الأزمات على حماية المصالح العليا، وتعزيز التماسك الداخلي، والبحث عن بدائل استراتيجية للمياه والطاقة والاستثمار. وهنا تتجلى قيادة الملك الضامن بتحويل التهديد الخارجي إلى فرصة لتعزيز التماسك الداخلي وبناء مشروع وطني جامع.
لكن التحدي الحقيقي يبقى في الأداء التنفيذي، الذي ما زال بطيئًا ومترددًا، ويتعامل مع الملفات الحساسة كجدول خدمات لا كملفات أمن قومي.
والسؤال اليوم، هل يستطيع الجهاز التنفيذي أن يلحق بالرؤية الملكية؟
اننا اليوم بأمس الحاجة الى فريق تنفيذي في المؤسسات الوطنية، يكون اداءه يوازي أداء المنتخب الأردني لكرة القدم.