نبض البلد -
بقلم الدكتور محمد طه العطيوي
شهد الأردن خلال الايام الماضية سلسلة من حالات التسمم الجماعي نتيجة تناول كحول مغشوشة ملوثة بمركب الميثانول. هذه الكارثة الصحية لم تكن وليدة الصدفة، بل هي نتاج مباشر لتداخل عوامل كيميائية غير مراقبة، ومنظومة رقابة غير فعالة، وغياب للوعي المجتمعي بالتمييز بين مركب يُستهلك ومركب يُستبعد طبيًا.
الميثانول (CH₃OH) والإيثانول (C₂H₅OH) يتشابهان بنيويًا كونهما كحولات بسيطة، لكن الاختلاف في ذرة كربون واحدة فقط يجعل الميثانول سامًا وقاتلًا، بينما الإيثانول أقل خطرًا وقابلًا للاستهلاك البشري، هذا التشابه الجزيئي لا يعكس إطلاقًا سلوكهما البيولوجي. فبينما يُستقلب الإيثانول عبر مسار غير سام نسبيًا، يتحول الميثانول في الكبد، بوساطة إنزيم الكحول ديهيدروجيناز، إلى فورمالديهايد ثم حمض الفورميك، وهما مركبان يؤديان إلى انهيار وظيفي في الخلايا، وتثبيط مباشر للمسار التنفسي الميتوكوندري، مسببَين حموضة دموية مميتة.
و بصفتي متخصصًا في الكيمياء، أجد أنه من الضروري تسليط الضوء على الديناميكا الجزيئية التي تُفسّر هذه السُمية العالية. فالميثانول لا يُعتبر سامًا بذاته، بل تكمن خطورته في نواتج استقلابه البَعدي، والتي تتراكم لغياب آليات الإزالة السريعة. تشير الحسابات الكيميائية الحوسبية (Computational Chemistry) إلى أن حمض الفورميك يمتلك قدرة عالية على تعطيل عمل إنزيم Cytochrome c Oxidase في الميتوكوندريا عبر الارتباط التساهمي بجزئ الحديد في مركز الهيم. هذا التعطيل يوقف إنتاج الطاقة الخلوية (ATP) ويؤدي إلى سلسلة من التفاعلات الانحدارية التي تُسبب الفشل الخلوي والموت الخلوي المبرمج (Apoptosis)، لا سيما في الخلايا العصبية عالية الحساسية مثل خلايا الشبكية والعصب البصري.
الجرعة القاتلة من الميثانول لا تتعدى 30–50 مليلتر للفرد البالغ، وقد يكون فقدان البصر من أولى أعراض التسمم، يليه فشل عصبي، غيبوبة، وربما وفاة إذا لم يتم التدخل السريع. تكمن خطورته أيضًا في أن فترة الكمون قد تمتد لـ24 ساعة، مما يصعّب التشخيص المبكر في غياب التاريخ الدقيق للتعرض.
تشير المصادر الرسمية إلى وجود تراكيز مرتفعة من الميثانول في العينات المضبوطة و التي تشكل خطرًا جسيمًا على الصحة العامة. هذا يعكس وجود شبكات تصنيع غير قانونية تستخدم مذيبات صناعية ومواد غير مرخصة، بعيدًا عن أي رقابة أو معايير سلامة.
مثل هذا التلاعب لا يقتصر خطره على التسمم المباشر، بل يؤدي إلى تعقيد الأعراض السريرية وتأخير التشخيص، مما يزيد من معدلات الوفاة.
ما حدث في الأردن هو نموذج معقّد لأزمة صحية كيميائية كان من الممكن تجنبها بالعلم، والتخطيط، والشفافية. إن الميثانول، في صورته الصناعية، ليس مجرد مادة؛ بل تهديد كامن إذا ما انتقل من المختبر إلى السوق دون ضبط. ويقع على عاتق العلماء، والمشرعين، والمؤسسات الصحية مسؤولية إعادة تعريف العلاقة بين المجتمع والكيمياء: من خوف غريزي إلى فهم واعٍ.