نبض البلد - "الأردن نحو ما يجب أن يكون"
منصور البواريد
الأردن يقف اليوم أمام حقيقة لا يمكن تجاهلها، مفادها أنَّ ما كان يصلح بالأمس لم يعد كافيًّا، وأنَّ إدارة الدولة بعقلية الحذر لن تصنع مكانًا في عالم تُعاد فيه صياغة الموازين والتحالفات، فلم تعد التحديات ترفًا خطابيًّا،،، بل تحولت إلى اختبارات يومية يعيشها الأردني في لقمة عيشه، وفي ثقته بالمؤسسات، وفي إحساسه بمكانته في معادلة وطنية طال انتظار إعادة ضبطها.
في خضم هذا، برزت رؤية جلالة الملك عبد الله الثاني-حفظه الله ورعاه- بوصفها مشروعًا استباقيًّا واعيًّا، يُقارب المستقبل كضرورة وجودية لإبقاء الأردن لاعبًا حيًّا في زمن التحولات. رؤية اقتصادية تُعيد توجيه البوصلة نحو الإنتاجية والابتكار، لا الجباية والانتظار؛ ورؤية سياسية تُرسِّخ المشاركة والتعددية ضمن سياق إصلاحي منضبط؛ وإدارية تُراهن على الكفاءة لا التوريث الوظيفي.
التركيز الملكي على الاقتصاد ليسَ صدفة، بل إدراك دقيق لطبيعة المرحلة المقبلة. نحن بحاجة إلى بيئة أعمال لا تطرد المستثمر بل تغريه، إلى قوانين ضريبية مرنة وعادلة لا تنسف الطبقة الوسطى، وإلى إطلاق صندوق سيادي استثماري يمول مشاريع إنتاجية في الأطراف لا فقط في المركز، ويخلق فرص عمل حقيقية ضمن رؤية شاملة للصناعات التكنولوجية والزراعة الذكية والطاقة البديلة. المطلوب ليس فقط نموًا رقميًّا، بل نموًّا يُحس في الجيوب وفي الثقة وفي أفق العيش الكريم.
أما سياسيًّا، فإنَّ التوجيه الملكي نحو تجديد الحياة الحزبية وتمكين الشباب والمرأة ليس خطوة تجميلية بل استراتيجية استقرار طويل الأمد. لا دولة يمكن أن تتماسك بلا مؤسسات سياسية قادرة على تمثيل نبض الشارع بنضج لا بفوضى، وبمسؤولية لا بشعبوية، المطلوب تطوير الثقافة السياسية من القاعدة إلى القمة، وإعادة الاعتبار للعمل البرلماني كأداة رقابة وتشريع، لا كمنصة خطابة موسمية.
الإدارة، هي عقدة العقد. لدينا موظفون أكفاء، لكنهم مكبلون بثقافة الخوف والتأجيل والروتين. إعادة هيكلة القطاع العام لا تعني فقط دمج الوزارات، بل تغيير عقلية الخدمة من الجذر، تخفيض زمن المعاملة، وربط الأداء بالمكافأة، ومحاسبة علنية للفاشل، وتكريم حقيقي للمجتهد. فنحن نحتاج إلى إطلاق ميثاق خدمة وطنية جديد، يُعيد الثقة بين الدولة ومواطنيها، ويحول الإدارة من عبء إلى رافعة.
وإن كنا نريد أن نحدث أثرًا حقيقيًّا، فلا بُدَّ من العودة إلى الإنسان الأردني ذاته. ذلك الذي صبر حتى تآكل صبره، وعمل في صمت حتى صار صوته باهتًا، وتخرج من الجامعة ليبيع القهوة على الرصيف أو يُجبر على الهجرة. هذا الإنسان لا يحتاج شعارات، بل يحتاج أن يرى تغيرًا فعليًّا ينعكس في تفاصيل يومه، في انسياب الخدمات، وفي عدالة الفرص، وفي شعوره أنَّ الدولة تحترمه لا تساومه، تصغي له لا تنكر وجعه..!
الرؤية الملكية تقدم الخريطة، وما على مؤسسات الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص إلا أن يمتلكوا الجرأة لتنفيذها، وفي عالم يتسابق على التكنولوجيا، وعلى الذكاء الاصطناعي، وعلى الطاقة الخضراء، فلا يجوز أن نقف متفرجين. الأردن يمكنه أن يكون مركزًا إقليميًّا للأمن الغذائي، ومنصة لوجستية للطاقة المتجددة، وبيت خبرة للسياسات الذكية، إذا أحسنا ترتيب أولوياتنا وأعدنا الاعتبار للمعرفة والعقل.
ففي الختام لا وقت نضيعه في المجاملة ولا مجال للمزيد من التأجيل،، اللحظة الآن تقتضي أن ننتقل من التساؤل إلى التنفيذ، ومن النية إلى القرار، ومن القلق إلى الفعل. فلنبدأ من اليوم، لا من الغد. الأردن لا يحتاج إلى فرصة جديدة، بل إلى جيل لا ينتظر الفرص بل يصنعها، يقودها بعقله، ويدافع عنها بكرامته، وينجزها بإيمانه بوطنه. فإما أن نصعد إلى حيثُ تستحقنا الجغرافيا والتاريخ، أو نُترك حيث تُلقي الأمم بذاكرتها على من لم يعرف كيف يصنع له مستقبلًا، فبقيادته الواعية، يُجيد الأردن فنّ استنبات الأمل من قلب العدم، وصياغة الممكن من بين أنياب المستحيل.