نبض البلد - حسام الحوراني خبير الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي
في زمنٍ تحكمه الخوارزميات، وتُديره شبكات معقدة من الأكواد والمعالجات، يعود الحديث مرة تلو الأخرى عن "أمجاد التصنيع" و"المصانع الوطنية" و"إحياء الصناعة المحلية"، وكأن الذاكرة الجماعية لا تزال مشدودة إلى صوت الماكينات، ورائحة المعادن، وعرق العمال. هذا الحنين إلى عصر التصنيع ليس مجرد شعور رومانسي، بل هو رد فعل عميق على التحولات الجذرية التي يعيشها العالم، حيث استبدلت القوة الإنتاجية اليدوية بقوة حسابية غير مرئية، وجعلت من "العامل البشري" مكوّنًا ثانويًا في آلة اقتصادية تُدار اليوم بذكاء اصطناعي لا يكلّ ولا ينام.
في العقود الماضية، كانت الدولة القوية هي الدولة الصناعية. كانت تقاس مكانة الأمم بعدد مصانعها، وقدرتها على الإنتاج، وميزانها التجاري الذي يُترجم الحديد والإسمنت والآلات إلى نفوذ سياسي واقتصادي. لكننا اليوم نعيش في مشهد مختلف تمامًا، حيث باتت الخوارزميات هي المصانع الجديدة، و"المواد الخام" هي البيانات، و"المنتج النهائي" هو التوصية، أو القرار، أو حتى التنبؤ بالمستقبل.
هذا التحول لم يحدث فجأة. بل هو نتيجة عقود من تسارع التطور التكنولوجي، وازدهار الاقتصاد الرقمي، وتوسع الشركات التكنولوجية العملاقة التي باتت اليوم تملك من النفوذ ما يفوق بعض الدول. في هذا السياق، أصبحت نماذج الذكاء الاصطناعي – من تلك التي تقترح عليك ما تشتري، إلى تلك التي تكتب نصوصًا وتدير مصانع كاملة – هي اللاعب الرئيسي الجديد. ولم تعد المصانع تملأها الأيادي العاملة، بل تُدار بأنظمة ذاتية، وروبوتات ذكية، وبرمجيات تتخذ قرارات إنتاجية دون الحاجة إلى إشراف بشري مباشر.
لكن هذا "الانتصار الرقمي" لم يُطفئ الحنين إلى عصر التصنيع. بل على العكس، مع كل إنجاز تكنولوجي، يعلو صوت من يطالب بإعادة الاعتبار للصناعة التقليدية، بوصفها ضمانة للسيادة الاقتصادية، ومصدرًا للوظائف، وساحة للحرفية والإبداع البشري. في أميركا، وفي أوروبا، وحتى في الدول الناشئة، تتوالى السياسات والمبادرات لإعادة خطوط الإنتاج، وبناء مصانع محلية، وتقليل الاعتماد على الخارج. وكأن البشرية، رغم انجذابها إلى التكنولوجيا، تبحث عن توازن مفقود بين "الآلة الصامتة" و"اليد الحقيقية".
في المقابل، تقف الخوارزميات كمنافس شرس، بل كمُهدد لهذا الحنين. فهي لا تتعب، ولا تُضرب عن العمل، ولا تطلب إجازات، وتُنتج بدقة لا تُضاهى. إن الصراع هنا ليس بين القديم والجديد، بل بين النموذج الصناعي الذي يشغّل البشر، والنموذج الخوارزمي الذي يستبدلهم. في مصانع "تسلا" و"فوكستون" و"هواوي"، لم يعد العامل البشري سوى مراقب أو مبرمج أو مُشرف، بينما تقوم الآلات بكل شيء من اللحام إلى الفحص إلى التغليف.
ويطرح هذا الصراع سؤالًا وجوديًا: هل يجب أن نختار بين الذكاء الصناعي والخوارزمي، أم أن الحل في الجمع بينهما؟ هل يمكن أن توجد مصانع ذكية تُبقي الإنسان في قلب العملية، لا على هامشها؟ وهل يمكن أن تساهم الخوارزميات في تحسين ظروف العمال، بدل أن تلغي الحاجة إليهم؟
الواقع يقول إننا بحاجة إلى دمج الذكاء الصناعي التقليدي مع الذكاء الاصطناعي الحديث. فالصناعة في عصر الخوارزميات لا يجب أن تكون استنساخًا للماضي، بل تطويرًا له. يمكننا أن نُحيي روح التصنيع عبر مصانع ذكية تعتمد على الابتكار المحلي، وتشغّل البشر في مهام إبداعية وتحليلية وتخطيطية، تُكمل عمل الآلات، لا تُلغيه.
من جهة أخرى، لا يمكن تجاهل أن الاعتماد الكلي على الخوارزميات يفتح أبوابًا للهيمنة الرقمية، والسيطرة غير المرئية، والاختراقات الأمنية. فالمصنع المادي يمكنك أن تُحصّنه، لكن ماذا عن المصنع الخوارزمي؟ من يراقب خوارزميات التصنيع؟ ومن يضمن عدم استخدامها لإضعاف المنافسين، أو التحكم في سلاسل الإمداد العالمية؟
الحنين إلى التصنيع ليس ضعفًا، بل هو إشارة إلى الحاجة إلى التوازن. التوازن بين العقل البشري والآلة، بين الخبرة اليدوية والحوسبة السحابية، بين الإنتاج المادي والقيمة الرقمية. وهذا التوازن لا يتحقق بالتوقف عن التقدم، بل بإعادة توجيه الذكاء الاصطناعي لخدمة الإنسان، لا استبداله.
في نهاية المطاف، الخوارزميات لن تبني حضارة وحدها، كما أن المطارق لا تُدير اقتصادات اليوم. نحن بحاجة إلى وعي جديد، يُدرك أن معركة الاقتصاد لم تعد تُخاض فقط في المصانع، ولا في الأسواق، بل في السطر البرمجي ذاته. وإذا لم نكن نحن من نكتبه، فسنجد أنفسنا حتمًا نُنفّذ ما كُتب لنا.