نبض البلد -
حاتم النعيمات
بعد فترة طويلة امتدت لعقود على إيقاف خدمة العلم، أعلنت الحكومة والقوات المسلحة إعادة تطبيق خدمة العلم، وجاء ذلك بتعليمات من سمو الأمير الحسين بن عبد الله، ولي العهد.
قرار إيقاف خدمة العلم في مطلع التسعينيات جاء بسبب بيئة السلام التي صاحبت محادثات مدريد، والتي أفضت إلى اتفاقية وادي عربة بعد صعود التيار المعتدل في إسرائيل بقيادة إسحق رابين. واليوم، وبعد صعود اليمين الإسرائيلي وبوحه بأوهامه التوسعية، تعود الدولة الأردنية وباستشراف معهود للمستقبل من قبل جلالة الملك وسمو ولي العهد لفرض الخدمة الإلزامية في البلاد. المشروع لم يكن ردة فعل لحظية على تصريحات نتنياهو، بل نظرة استراتيجية شاملة لتغيرات الخارطة السياسية في المنطقة وفي إسرائيل، وجاءت هذه النظرة أيضًا كمؤشر قوي على إدراك التغيرات التي حدثت في المجتمع الأردني وخصوصًا فئة الشباب.
الأردنيون لديهم علاقة مميزة وذات شجون مع الجيش، إذ لا يخلو تعريفهم لعلاقتهم مع الأرض التي انتزعوها كدولة حديثة من ظروف تاريخية معقدة من ذكر تضحيات القوات المسلحة ودورها في التصدي والبناء. والجيش مؤسسة خارج نطاق النقاش لما تحمله من قدسية في صدور الأردنيين، فمن يعيش في بلد آمن في منطقة تعج بالأزمات والكوارث، يعلم جيدًا قيمة جيش بلاده. ولهذا فإن خدمة العلم سيكون لها أثر مباشر على ارتباط الشباب بأرضهم، وعلى تعزيز الوعي الوطني وإدراك معاني الهوية الوطنية الأردنية وتجلياتها التاريخية.
خلال العقدين الأخيرين أصبحت التكنولوجيا مصدرًا من مصادر الثقافة لدى الشباب الأردني، وكما لهذه المصادر من حسنات، فإن لها سيئات انعكست على النمط العام لاهتمامات الأجيال التي نشأت في هذه الفترة. والقصد هنا ليس وصم هذه الأجيال بأي صفة غير مناسبة أبدًا، بل هو توصيف لحالة عامة "أجبر" عليها الشباب الأردني كبقية الشباب في العالم. لذلك أصبح من المهم بتصوري إدخال هذا الجيل في تفاعل فيزيائي ملموس مع الواقع الوطني ومع القضايا التي تواجهها دولتهم عن طريق برنامج يدار من قبل القوات المسلحة كبرنامج خدمة العلم.
نحن دولة تعيش بجانب واحد من أعتى الاحتلالات في العالم؛ احتلال يهدف لاستبدال شعب مكان شعب، لا مجرد تواجد عسكري، وبدعم من أهم الدول الغربية باعتباره كيانًا وظيفيًا ينفذ مصالحها. وهذا الاحتلال لم يتوقف يومًا عن خلق الصراعات والأزمات بتمرده على القانون والأعراف الدولية، ولم يكف ليوم واحد عن استهداف أهل الأرض من الأشقاء في فلسطين بالقتل والتدمير والتهجير. لذلك، على من يجاوره جغرافيًا أن يستعد بشكل استثنائي لكافة الاحتمالات. والأردن لديه خصوصية مختلفة عن بقية دول الطوق؛ فهو صاحب أطول حدود معه، وهو الأكثر اشتباكًا مع التهديدات بالتهجير والتوطين، والأقدر على منعه من استباحة الضفة الغربية وإنهاء القضية الفلسطينية. وكنتيجة، فإن احتياطاتنا يجب أن تواكب تطورات سلوك هذا الاحتلال بكل ما نملك، وهذا ما عمدت إليه القيادة الأردنية في تحركاتها الأخيرة.
عودة تطبيق خدمة العلم تعني تعزيزًا للبعد الشعبي في عملية اتخاذ الاحتياطات، وتعني أيضًا مواجهة مباشرة مع مساعي تذويب الهوية الوطنية الأردنية خدمةً لمشاريع اليمين الإسرائيلي، لأن العلاقة بين الأردنيين وجيشهم عضوية وتشكل جزءًا مهمًا من هذه الهوية؛ فالبرنامج يدمج بين التدريب العسكري والتربية الوطنية والتهيئة لسوق العمل، وهذه المكونات الثلاثة تمثل جوهر واجب التصدي وأساس عملية البناء الوطني.
حصل إعلان عودة خدمة العلم على مباركة شعبية واسعة رصدت عبر ردود الأفعال على مواقع التواصل الإجتماعي والصحافة، وقد جاء الإعلان في ذروة استنفار الأردنيين ضد تصريحات نتنياهو وغيره كامتداد للحالة البديعة في الدفاع عن الأردن ضد الحملات الإعلامية التي تكثّفت منذ بداية العدوان على غزة، لذلك فإن المشهد اليوم يكتمل بتنامي حالة الاستنفار الوطني هذه كرسالة موجهة لمن يهمه الأمر مضمونها واضح: الشعب الأردني سيدافع عن وطنه وانجازاته بكل ما أوتي من قدرات.