الدكتور عبدالله سرور الزعبي

الأردن وإعادة هندسة قوة الردع

نبض البلد - ا يمكن فهم موقع الأردن في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط دون إدراك أنه بلد اختار أن يبني معادلته الخاصة في قوة الردع كركيزة أساسية في سياسته الإقليمية. خلال العقود الماضية، اعتمد على هندسة الردع على احترافية الجيش، والأجهزة الأمنية المتطورة، والتحالفات الدولية. جميعها شكلت أدوات لضمان الأمن الداخلي والتوازن الإقليمي في محيط مضطرب. ووفقًا لـ(جوناثان شميت) «الأردن استطاع تحويل موقعه الجغرافي الحساس إلى أداة قوة دبلوماسية، من خلال ردع التهديدات دون الانخراط المباشر في النزاعات الكبرى».

لكن التحولات الإقليمية الراهنة تستدعي نهجًا أوسع، فالأردن اليوم، لا يكتفي بأن يكون مجرد متفرج على عواصف المنطقة، بل يعمل على بناء معادلة ردع جديدة تزاوج بين العقل المتعلم والجيش المنظم، وهذا ما أشار إليه الملك عبد الله الثاني، بضرورة، تمكين الشباب من لعب دور فاعل في مستقبل الدولة.
وفي هذا السياق، جاء إعلان ولي العهد، الحسين بن عبدالله الثاني، عن إعادة برنامج خدمة العلم الوطني، الذي يعيد دمج الشباب في برامج تدريبية وعسكرية متقدمة، تعزز الانتماء الوطني وتطور مهاراتهم الشخصية والفنية، واقتبس «خدمة الوطن تبدأ بخدمة الذات وبناء القدرات، وليس فقط بالانضباط العسكري»، وهذا التصريح يعتبر قوة لهندسة الردع الاجتماعي (بناء الانضباط الوطني، ترسيخ قيم المسؤولية، وإعادة الثقة بالجيل الشاب)، وتبرق للأردنيين بأن دولتكم محصنة بشبابها، وتؤكد للآخرين بأن الأردن ليس تلك الدولة الرخوة، كما يظن البعض، بل يمتلك قاعدة بشرية (مؤهلة من داخل الصفوف المدرسية إلى ثكنات الجيش) ستكون قادرة على الردع أمام أي تهديدات أو سياسات توسعية لمحاولة فرض واقع جديد، إذا لزم الأمر.
إن إعلان ولي العهد، بإعادة تفعيل خدمة العلم، ليست مجرد قرار إداري، بل إعلان عن رؤية إستراتيجية جديدة للأمن الوطني، تعكس فهما عميقا للواقع الإقليمي والدولي، مفهومها من قاعات الدراسة إلى معسكرات التدريب، الأردن يعيد تعريف الردع. 
إن مثل هذه التوجهات تشكل مزيجاً من المدارس الدولية في قوة الردع، إلا انها بنكهة أردنية، حيث يكون فيها الشباب مسلحون بالمعرفة، محميون بالانضباط العسكري، والموازنة بين الحرية والمسؤولية المجتمعية والوطنية، ومؤمنون بأن قوة الدولة هي انعكاس لقوة مواطنيها. 
هذه هي المعادلة التي ستمنح الأردن منعة في وجه الضغوط الاقتصادية والسياسية والإقليمية، وتجعله حاضرًا في معادلات المنطقة كطرف لا يمكن تجاوزه أو ابتزازه.
من الناحية الاجتماعية، يعزز هذا النهج الانتماء الوطني لدى الشباب، ويوفر قنوات لتطوير القدرات الفردية والجماعية، ويمنحهم شعورًا بالمسؤولية تجاه الوطن. كما خلصت دراسة صادرة عن مركز دراسات الشرق الأوسط في واشنطن، ان الدول التي استثمرت بمهارات الإنسان استطاعت خلق استقرار داخلي واقتصاد مرن، حتى في أصعب البيئات الإقليمية.
التوجه الأردني الجديد يعكس إدراكًا عالميًا، لطبيعة التهديدات المعاصرة، حيث القوة العسكرية وحدها لم تعد كافية، المفكر الألماني يورغن هابرماس يرى أن الأمن السياسي والاجتماعي يتطلب مجتمعات متعلمة، مسلحة بمهارات الحوار والابتكار، وهي أدوات تزيد من قوة الردع العسكرية، والتي وحدها لا تكفي. بينما يشير فرانك هورنر، من جامعة هارفارد، إلى أن الدول الصغيرة في مناطق النزاعات «لا يمكنها الاعتماد فقط على القوة التقليدية، بل عليها بناء رأس مال بشري قوي ليكون رصيدها الإستراتيجي الحقيقي». 
الأردن، الذي استوعب المعادلة، ويسعى لتشكيل نموذج هندسة مزدوجة للقوة، ردع تقليدي مدعوم بالجيش والأجهزة الأمنية، مع استثمار مكثف في الشباب عبر التعليم والخدمة الوطنية في المعسكرات، لإعادة صياغة معادلة فريدة للردع والاستعداد للمستقبل. وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن الأمن لا يُقاس بمجرد قوة السلاح، بل بقدرة العقول على مواجهة تحديات عالم متغير، حيث تتشابك التهديدات الإقليمية مع طموحات جيل جديد من الشباب الأردني.
إن مثل هذه الإجراءات، إذا ما نفذت وفقاً لخطة استراتيجية محكمة، يمكن لها أن تقلل فجوة المهارات بنسبة قد تتجاوز 25 % خلال أقل من عقد من الزمن، ما يعزز قدرة الأردن الاقتصادية والاجتماعية في مواجهة التحديات الإقليمية.
فالشباب الذين سيخدمون في القوات المسلحة لا يكتسبون الانضباط والمهارات وحسب، بل يصبحون جزءًا من معادلة الردع الوطني، وقوة الأردن المستدامة، وبعقول متفتحة، وانتماء وطني عميق. وبهذا نكون قد أعدادنا جيلا قادرا على مواجهة المستقبل بعقل مسلح بالمهارات المطلوبة للردع المطلوب. 
فالأردن لا يملك ترف الخيارات الخاطئة، أمام تحديات البطالة، والفقر، وضغوط الجوار الملتهب، فلذلك، لا بد من مشروع وطني يقوم على ركيزتين، تعليم يحرر العقول، وخدمة علم تحمي الدولة. إن مثل هذا الدمج هو الذي يصنع المناعة الأردنية في مواجهة المستقبل، ويجعل الأردن لاعبًا صلبًا لا مجرد متأثر برياح الآخرين.
هذا النهج، يعكس رؤية القيادة الأردنية، التي ترى في الشباب ليس فقط خط الدفاع الأول، بل أيضًا صناع المستقبل، وحاملين لمفتاح الاستقرار والازدهار في وطن حساس ومليء بالتحديات، ويقدم للعالم تجربة نادرة في المنطقة، حيث يصبح الاستثمار في البشر هو الردع الحقيقي، وضمانة للأمن والازدهار في وطن مليء بالتحديات.
الطريق ليس خاليًا من التحديات، حيث وتأهيل الشباب في برامج الخدمة الوطنية تتطلب خططًا مستدامة واستثمارات طويلة الأمد. ومع ذلك، يبدو أن الأردن يسير بخطى واثقة نحو قوة ذكية، لضمان أمن الدولة في المستقبل.
*مركز عبر المتوسط للدراسات الإستراتيجية