المهندسون الصناعيون يكتسحون الإدارة الحكومية: هل نحن أمام فرصة أم تحدٍ؟

نبض البلد -

المهندسون الصناعيون يكتسحون الإدارة الحكومية: هل نحن أمام فرصة أم تحدٍ؟


بقلم: صالح سليم الحموري

خبير التدريب والتطوير - كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية

في الأردن، تبرز ظاهرة مثيرة للاهتمام في المؤسسات الحكومية، حيث يتصدر المهندسون الصناعيون العديد من المناصب الإدارية العليا. هذه الظاهرة، التي تعكس قوة المهارات التحليلية والتنظيمية التي يتمتع بها المهندسون، تُعد تحولًا لافتًا في الهيكل الإداري. ومع ذلك، فإنها تثير تساؤلات جوهرية حول تأثير هذا التحول على جودة الإدارة العامة وكفاءة الأداء المؤسسي. فهل يمكن اعتبار هذا الحضور المتزايد للمهندسين الصناعيين في المناصب القيادية فرصة ذهبية لتحسين العمليات المؤسسية، أم أننا أمام تحديات جديدة تتطلب إعادة تقييم التوازن بين الكفاءة التقنية والمهارات القيادية؟

من المعروف أن المهندسين الصناعيين يتمتعون بخلفيات أكاديمية قوية تُركز على تحسين العمليات، تحليل البيانات، وتبسيط الإجراءات، وهي مهارات لا شك أنها منحتهم ميزة تنافسية لتولي مناصب إدارية في مؤسسات حكومية. بفضل هذه الخلفيات، نجحوا في تقديم حلول مبتكرة وزيادة الكفاءة التشغيلية. ومع ذلك، الإدارة - ولا سيما الإدارة الحكومية - تتجاوز حدود الكفاءة التقنية؛ فهي فن وعلم يتطلب مزيجًا معقدًا من المهارات القيادية، فهم السياسات العامة، واستيعاب ديناميكيات المجتمعات والتوجهات الاقتصادية. بالإضافة إلى ذلك، تقتضي الإدارة الناجحة قدرة على إدارة التغيير، وبناء استراتيجيات تتماشى مع الثقافة المجتمعية والمؤسسية، مما يجعل الأمر أكثر تعقيدًا من مجرد تطبيق النظريات الهندسية.

جذور الظاهرة: لماذا المهندسون؟

إن تصاعد دور المهندسين الصناعيين في الإدارة الحكومية في الاردن ليس محض صدفة، بل هو نتيجة مسار طويل من التطورات الاجتماعية والمهنية. ففي العقود الأخيرة، شهد الأردن ارتفاعًا كبيرًا في الطلب على التخصصات الهندسية، مما جعل الهندسة الصناعية خيارًا جذابًا للشباب الطموحين. إلى جانب ذلك، ترتبط الهندسة في الثقافة الأردنية برمز التفوق الأكاديمي والاجتماعي، مما أتاح للمهندسين الوصول بسهولة إلى المناصب القيادية.

كما لعبت معايير الجودة والتميز دورًا محوريًا في تعزيز هذه الظاهرة، حيث أصبح التركيز على إدخال مفاهيم مثل إدارة الجودة الشاملة والاعتماد المؤسسي ضرورة لتحسين الأداء في المؤسسات الحكومية. هذا التوجه دفع المؤسسات لتبني نهج تحليلي ومنهجي يرتكز على تحسين العمليات وتطوير كفاءة الأداء. بفضل تدريبهم الهندسي، نجح المهندسون الصناعيون في تطبيق هذه المعايير بكفاءة ملحوظة، مما جعلهم خيارًا مفضلاً للعديد من المؤسسات التي تسعى للتميز المؤسسي.

شخصيًا، وخلال عملي في أول وأكبر شركة متخصصة في التميز المؤسسي الحكومي في الاردن، كنا نفضل تعيين المهندسين الصناعيين نظرًا لقدراتهم المتميزة في تحليل العمليات ورسمها بدقة، وهو ما يشكل حجر الزاوية في أي مبادرة لتحسين الأداء المؤسسي. هذه المهارات العملية ساهمت في تحقيق مستويات أعلى من الكفاءة والجودة، مما عزز مكانتهم في المناصب الإدارية والقيادية.


الإيجابيات والتحديات

لا يمكن إنكار وجود أمثلة ناجحة لمهندسين صناعيين في الإدارة الحكومية. بفضل مهاراتهم التحليلية، استطاعوا تحسين العمليات وتقليل الهدر وزيادة الإنتاجية. ومع ذلك، فإن الاعتماد المفرط على المهارات التقنية دون تأهيل كافٍ في القيادة قد يؤدي إلى ما يمكن تسميته بـ"البيروقراطية التقنية"، حيث تهيمن العمليات والإجراءات على حساب الإبداع والمرونة.

الإدارة الناجحة هي تلك التي تجمع بين الكفاءة التقنية والقدرات الإنسانية، فالمهارات الفنية وحدها لا تكفي لضمان قيادة فعالة تحقق الأهداف المؤسسية. هذا التوازن بين المهارات هو ما يمكّن القادة من بناء فرق عمل قوية، واتخاذ قرارات استراتيجية، وتعزيز الإبداع في مواجهة الأزمات. ولكن عندما يغيب هذا المزيج، تبدأ التحديات في الظهور. فنرى ضعفًا في إدارة الفرق، وارتباكًا في اتخاذ القرارات، وغيابًا للحلول المبتكرة عند مواجهة التحديات.

وفيما يتعلق بالإدارة الحكومية تحديدًا، فهي تتميز بخصوصيتها وتعقيدها مقارنة بإدارة المؤسسات الخاصة. الإدارة الحكومية ليست مجرد عملية تشغيلية أو تقنية؛ بل هي التزام اجتماعي وخدمي يتطلب فهمًا عميقًا لطبيعة المجتمع واحتياجاته. بعكس المؤسسات الخاصة التي تركز على الربحية، تعمل الإدارة الحكومية لتحقيق العدالة الاجتماعية وتقديم خدمات عامة تمس حياة المواطنين مباشرة.

أحد أبرز الاختلافات بين الإدارة الحكومية والخاصة هو أن الإدارة الحكومية تُعنى بتنفيذ سياسات عامة طويلة الأمد تؤثر على مستقبل المجتمع ككل، بينما تميل المؤسسات الخاصة إلى التركيز على تحقيق أهداف مالية قصيرة أو متوسطة الأجل. بالإضافة إلى ذلك، تواجه الإدارة الحكومية تحديات فريدة تتعلق بالتفاعل مع أطراف متعددة، بدءًا من المواطنين ووصولًا إلى المنظمات الدولية. وهذا يتطلب مهارات استثنائية في التواصل والتفاوض لبناء جسور الثقة وضمان الشفافية.

ولا يمكن إغفال الأهمية البالغة للالتزام بالأنظمة واللوائح في الإدارة الحكومية، حيث إن الرقابة الصارمة والمتطلبات القانونية تجعل العمل الحكومي أكثر حساسية وتعقيدًا. المؤسسات الحكومية تعمل في إطار من المساءلة والشفافية، مما يجعل القيادة فيها بحاجة إلى نهج متوازن يجمع بين القدرة على التحليل واتخاذ القرارات الفنية، وبين الفهم العميق للأبعاد الإنسانية والاجتماعية.

في النهاية، نجاح الإدارة الحكومية يعتمد على تحقيق هذا التوازن، حيث لا يمكن للعملية الإدارية أن تكون فعالة دون أن تراعي خصوصية المجتمع وثقافته، مع الحفاظ على كفاءة العمليات وتحقيق الأهداف الاستراتيجية للمؤسسة. بهذا النهج المتوازن، يمكن للإدارة الحكومية أن تحقق التنمية المستدامة وتلبي تطلعات المواطنين بفعالية وعدالة.

الدروس المستفادة من التجارب العالمية

بالنظر إلى التجارب الدولية، نجد أن مدارس الإدارة الحكومية حول العالم تقدم نماذج ملهمة لكيفية إعداد القادة لمواجهة تحديات القطاعين العام والخاص.

  • مدرسة هارفارد كينيدي - الولايات المتحدة: تجمع بين التحليل الأكاديمي والقيادة العملية، وتركز على تطوير رؤى استراتيجية في السياسات العامة.
  • كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية (LSE) – بريطانيا: تقدم برامج متنوعة تجمع بين الاقتصاد والسياسات العامة مع التركيز على إعداد القادة.
  • كلية لي كوان يوسنغافورة: نموذج آسيوي بارز يركز على التنمية المستدامة والإدارة الحكومية.
  • المدرسة الوطنية للإدارة (ENA) – فرنسا: تاريخ طويل في إعداد القيادات العليا، مع تطوير المناهج لمواكبة التغيرات الحديثة.
  • كلية محمد بن راشد للإدارة الحكوميةالإمارات: تركز على الإدارة الحكومية والسياسات العامة، الابتكار في الخدمات والحوكمة الرقمية، مستلهمة رؤية دبي نحو بناء حكومات المستقبل.

مقارنة مع النموذج الأردني

بينما تعتمد الدول المتقدمة على مدارس متخصصة لتأهيل القادة، نجد أن المهندسين الصناعيين في الأردن يحاولون سد الفجوة عبر استغلال مهاراتهم التقنية. لكن السؤال يبقى: هل يمكن تعويض غياب مؤسسات متخصصة في الإدارة الحكومية بالاعتماد على خلفيات هندسية فقط؟

الحل: التوازن بين التقنية والقيادة

الفرصة ليست في إقصاء المهندسين عن المناصب الإدارية، بل في تعزيز مهاراتهم القيادية من خلال برامج تدريبية متخصصة. الجامعات الأردنية، وعلى رأسها الجامعة الأردنية، تتحمل مسؤولية استثنائية لتطوير برامج هجينة تجمع بين الهندسة والإدارة. هذه البرامج يمكن أن تقدم جيلاً جديدًا من القادة يتمتع بمزيج فريد من المهارات التحليلية والإنسانية.


الخلاصة: فرصة للتميز

إن التعمق في دراسة ظاهرة تصدر المهندسين الصناعيين للمشهد الإداري في الأردن، وتقديم حلول مبتكرة لتحسينها، يمكن أن يحول هذا التحول إلى فرصة استثنائية تعزز التميز المؤسسي. بتحقيق توازن مدروس بين المهارات التقنية والقيادية، يمكن للأردن أن يخطو خطوات ريادية في تطوير الإدارة الحكومية، بما يسهم في دعم مسيرة التنمية المستدامة والابتكار المؤسسي.

لكن لتحقيق هذه الرؤية، يتعين على الأردن أن يستلهم من التجارب العالمية التي أظهرت أهمية وجود مؤسسات تعليمية متخصصة في الإدارة العامة. على غرار النماذج المتميزة مثل مدرسة هارفارد كينيدي في الولايات المتحدة وكلية لي كوان يو في سنغافورة، خطت دول مثل قطر والسعودية خطوات رائدة بإنشاء كليات دراسات عليا متخصصة في الإدارة العامة. هذه الخطوات تُبرز فهمًا عميقًا لأهمية إعداد قادة حكوميين يمتلكون مزيجًا متوازنًا من المهارات التقنية والقيادية اللازمة لمواجهة التحديات المستقبلية.

هذا النهج يمكن أن يشكل نقطة تحول محورية للأردن، خصوصًا مع اقتراح إنشاء كلية الأمير حسين للإدارة العامة، وهي فكرة تحمل إمكانيات كبيرة لإعداد جيل جديد من القادة الذين يمكنهم تعزيز الكفاءة الحكومية وتحقيق تطلعات التنمية الوطنية. إن تأسيس كلية متخصصة بهذا المستوى سيكون بمثابة استثمار في رأس المال البشري الأردني، ويضع الأردن على خريطة التميز الإقليمي والعالمي في الإدارة العامة.