نبض البلد - بقلم: رزان البستنجي
.
سؤالٌ حيّرني لسنواتٍ عديدة... وحيّرني أكثر عندما عملتُ كأمينةِ مكتبة، كيف أقنع شخصًا ما بأهميةِ القراءة؟ فكان سؤاله: لماذا نقرأ؟
هل نقرأ لنكتسبَ معلومة؟!
هل نقرأ لنزورَ بلادًا لم نزرها؟!
هل نقرأ لنزيدَ من رصيدِ خبرتنا في الحياة؟!
كثيرةٌ هي الاحتمالات التي كانت تدورُ في ذهني وفي أذهانِ أصدقائي القُرّاء...
عندما كنا صغارًا، كنتُ أنا ورفاقي نقرأ لنفهمَ ما يدورُ حولنا، لنكتشفَ عالمَنا الطفوليَّ المزدحمَ بالألوان.
كبرنا قليلًا، فتغيّرتِ القصصُ الطفوليةُ السعيدةُ إلى قصصٍ ممتعةٍ مليئةٍ بالتشويقِ والمغامرات.
ونذكر جميعًا توصيةَ أمينةِ المكتبة:
"اختاروا قصصًا تجعلُ أذهانَكم تتدفّقُ بالأسئلة، فالسؤالُ شمسٌ مشرقةٌ تفردُ ذراعيها على العالمِ الفسيح."
كانت تقولُ كلامها هذا وملامحُها منبسطةٌ وعيناها تلمعان، مما أشعرَنا بالدهشةِ والفضول.
بعد مُضيِّ سنواتٍ وسنوات، أصبحنا في عمرِ المراهقة، ذلك السنُّ المتمرِّدُ على الطبيعةِ الجسديةِ والفكريةِ.
كانت معلّمةُ اللغةِ العربيةِ تصطحبُنا في زيارةٍ أسبوعيةٍ إلى مكتبةِ المدرسة، حينها تبدأُ رحلةُ البحثِ عن الكتبِ التي تتناسبُ ومرحلتَنا هذه.
ما إنْ نعثرَ على الكتابِ المناسبِ، نقفُ مشدوهين نُطالعُ الكتبَ والرفوف.
حتى لو لم نقرأ، نتساءلُ بدهشة: ما سرُّ هذه العظمة؟!
كنا بمجردِ النظرِ إلى تلك الأرففِ الممتلئةِ بالكتبِ، نشعرُ بموجةٍ عارمةٍ من الذهول، أمامَنا جبالٌ من العلمِ الراسخِ...
ونتعجّبُ كيف ظلَّ هذا الكتابُ القادمُ من أزمانٍ بعيدةٍ إلى يومِنا هذا صامدًا؟!
إنّ للكتابِ قيمةً لن تزول، وأهميةً لن تُستبدل، وعظمةً لن تندثر...
وما زال للكتابِ في نفسي وقعُ السحر، فإذا صادفتُ في طريقي مكتبةً أو بسطةَ كتبٍ، يكادُ قلبي يقفزُ فرحًا.
وظلَّ السؤالُ يتردّدُ صداه في خاطري: "لماذا نقرأ؟ أو لماذا أقرأ؟"
لقد نُقِلتُ من عالمٍ مليءٍ بالزهورِ إلى عالمٍ مليءٍ بالدهشة، وصولًا إلى عالمٍ آخرَ، وهنا تفجّرت عيونُ الأسئلة، فكان لا بدَّ أن أفهم!
أما في مرحلتِنا الجامعية، ذلك السنُّ الأكثرُ نضجًا واستيعابًا لاختياراتِنا واندفاعاتِنا في الحياة، فقد أصبحنا نقرأ لنعرفَ أكثرَ حولَ تخصّصِنا.
فأنا كنتُ أقرأُ لأعرفَ: كيف كان الجاحظِ يفكّر؟ وكيف لرجلٍ عظيمٍ كهذا أن يؤلّفَ عددًا ضخمًا من الكتب؟
كنتُ أقرأُ لأرى الأندلسَ حسناءَ ممشوقةً بظفائرَ ذهبيةٍ طويلة، أسمعُ من خلفِ القصورِ طربَ عشّاقِها، وأتحسّسُ نتوءاتِ جدرانِها، وأمتعُ ناظري برؤيةِ زهرةِ النيلوفرِ التي كانت تعتلي عرشَ مائها...
كنتُ أقرأُ... لأطيرَ... وحدهُ الكتابُ يمنحُك جناحينِ تطيرُ بهما إلى أرضِ اللهِ الواسعة.
كنتُ أقرأُ لأغذّي روحي وأحلقَ بها...
وبعد مرورِ زمنٍ طويلٍ مع القراءةِ ومحاولاتٍ للإجابةِ عن سؤال "لماذا نقرأ؟"، رغم توفّرِ كلِّ أشكالِ المعرفةِ، إذ بكبسةِ زرٍّ واحدةٍ يمكنك أن تصبحَ سائحًا في قلبِ الصين، تتجوّلُ في شوارعِها، وتسمعُ قصصَ شعبِها، وإن شئتَ، بكبسةِ زرٍّ أخرى، تتسلّقُ أعلى قمةِ جبل، وتأكلُ من المطبخِ العربيِّ أو الغربيِّ أشهى المأكولات، وتشاهدُ بالصوتِ والصورةِ أغربَ العاداتِ والتقاليدِ حولَ العالم... ومع ذلك، لم يرقْ لي كثيرًا...
جاؤوا بالكتاب الإلكتروني، وهو تجربة طموحة لم ترقَ إلى مستوى النجاح المنشود، لكن مهما حاولوا الاستغناء عن الكتاب الورقي، فإنه سيظل صامدًا لا يُضاهى.
وأخيرًا، كنتُ أقول لنفسي: ربما توصلتُ لإجابةٍ واحدةٍ فقط... في زمنِ العلمِ الدفّاق، نحن بحاجةٍ إلى فسحةٍ سماويةٍ نهربُ إليها، نفرُّ من عالمِنا هذا إلى عالمِ الكتاب، عالم يشبهُ فطرتَنا السليمة. لهذا نحن نقرأ...
عالمٌ أقلُّ دمويةً... وأكثرُ إنصافًا... في زمنٍ ضاقت فيه أرواحُنا، وانحنتْ به ظهورُنا، واكفهرّتْ به وجوهُنا...
وصدق المتنبي حين قال:
أَعَزُّ مَكَانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سَابِحٍ
وَخَيْرُ جَلِيْسٍ في الزَّمانِ كِتابُ .