رواية "الفريديس" لمصطفى القرنه: عندما يتوقف التاريخ عند الصليبيين

نبض البلد -
فواز الخلايله
بينما يمر الزمن كما تمر الأنهار في مجرى ضيق، لا يستطيع التاريخ إلا أن يتراكم ويتناثر، حاملاً معه غبار الأيام وندوب الحروب. وكان لعهد الحروب الصليبية في فلسطين، الذي تتحدث عنه رواية الفريديس لمصطفى القرنة، أثرٌ عميق في تلك الرقعة المقدسة من الأرض. الرواية لا تقتصر على تسجيل الأحداث التاريخية فحسب، بل تأخذنا في رحلة عبر الوعي البشري، لتجسد صراعًا بين الماضي والحاضر، وبين الحب والكراهية، وبين الأمل واليأس.

تاريخ الأرض وأبطالها:

في ذلك الزمن البعيد، كانت فلسطين نقطة اشتباك بين قوتين: قوة الإيمان والمقاومة التي قادها صلاح الدين الأيوبي، وقوة الغزو والدمار التي جلبها الصليبيون. ولكن ما يجعل هذه الرواية أكثر من مجرد سرد تاريخي هو قدرتها على استحضار الأنفاس العميقة للأبطال، الذين كانت جراحهم جزءًا من جراح الأرض نفسها. النخيلة، تلك القرية الهادئة الواقعة بالقرب من بيت لحم، تصبح في الرواية رمزًا لكل ما هو منيع، وكل ما هو مقدس. كانت "الفريديس" كالعين الحارسة لتاريخ فلسطين، وسيفًا مسلطًا على الرقاب.

وفي هذا السياق، يظهر هونكة، القائد الصليبي الذي تمترس في هذه القلعة المنيعة، وكأنه تجسيد للظلم الذي لا يرحم. يتوحد مع أسوارها الحجرية وكأنهما شريكان في عملية حصار لا ينتهي، حصار يقاوم كل شيء: الحياة، الأمل، وحتى الحب. هونكة، كما يصفه القرنه، ليس مجرد محارب، بل هو فكرة الظلم التي تتمثل في شكل إنسان، تقاومها قرية النخيلة التي ساندت صلاح الدين، فكانت هذه القرية كالعقل المدبر للثورة في تلك اللحظات الحاسمة.

الحب والأمل في أرض الجراح:

في خضم هذه المعركة بين القوى، تلمع في الأفق قصة حب لطيفة، ولكنها عميقة كأعماق البحر. حبٌ لا يمكن أن يكون معزولًا عن الظروف العاصفة التي تحيط به، فهو حبٌ ينشأ في صمت الحرب، في قلب الخراب الذي تركه الصليبيون خلفهم. نجد هذا الحب بين اولغا وزندو، العبد الذي ينتمي إلى مكان بعيد، والذي كان قلبه ينبض بالحب قبل أن ينبض بأي شيء آخر.  وكأنهما يخطوان معًا مسارًا جديدًا في تاريخ أمة كانت قد نسيت معنى السلام.

هذا الحب الذي يخترق جدران الحروب، يرمز إلى الأمل الذي لا يموت. فحتى في أحلك اللحظات، يبقى الأمل هو السلاح الأقوى. من خلال هذه القصة، يعرض مصطفى القرنه تلك الفكرة الفلسفية العميقة، التي تقول إن الإنسان لا يمكن أن يعيش بدون أمل، حتى وإن كان هذا الأمل محاصرًا بالجدران القوية للظلم والعدوان. في النهاية، عندما يغمر الحب أفق المعركة، يصبح الأمل هو الجسر الذي يعبر عليه الناس من ظلام الحروب إلى فجر الحرية.

اللحظة الحاسمة:

لكن اللحظة التي يتوقف فيها التاريخ، كما وصفها القرنه، هي لحظة انتصار صلاح الدين الأيوبي. في معركة "حطين"، كان انتصار المسلمين ليس مجرد نصر عسكري، بل كان انتصارًا للقيم التي يرمز إليها صلاح الدين: العدل، والإيمان، والتسامح. يرمز القرنه إلى هذا النصر ليس فقط كتحقيق  انجاز عسكري، ولكن كمفهوم فلسفي عميق. فصلاح الدين لم يكن مجرد قائد، بل كان تجسيدًا لفكرة العدل الذي يعيد التوازن إلى العالم. إن انتصاره لم يكن انتصارًا على بشر فحسب، بل كان انتصارًا على الظلم، على التسلط، وعلى الطغيان. كانت معركة "حطين" محطّة في الزمان والمكان، بحيث يعجز الإنسان عن تصور كيف يمكن للعدالة أن تُحقق وسط كل هذه الفوضى.

التاريخ يُكتب بدماء الأبطال:

عندما يمر الزمن ويتوقف التاريخ عند لحظة معينة، تظل تلك اللحظات محفورة في ذاكرة الأجيال القادمة. وفي رواية الفريديس، تتوقف ساعة التاريخ عند معركة حاسمة، لكن الفكرة التي يتركها القرنه هي أن التاريخ ليس مجرد حروب وقتال، بل هو مسار طويل من التضحيات والأمل. ، والرواية هي فكرة أن الحياة رغم قسوتها، يمكن أن تحمل أملًا جديدًا يولد من بين أنقاض المعارك.

أما "هونكة"، ذلك القائد الصليبي الذي تمترس في الفريديس، فهو يمثل كل من يتمترس في وجه الحق، لكنه في النهاية لا بد أن ينهار أمام إرادة الشعوب. إن تمترسه في الفريديس لا يمكن أن يطول، كما لا يمكن للظلم أن يدوم. في النهاية، سيأتي الوقت الذي تنهار فيه الأسوار، وتُستعاد الأرض، ويتحقق العدل.

إعادة النظر في الشخصيات:

من المثير للإعجاب أن مصطفى القرنه قد اختار أن يلتقي بأبطال روايته قبل أن يبدأ الكتابة، ليحاورهم حول رضاءهم عن مصيرهم الذي رسمه لهم. هذا اللقاء لم يكن مجرد لقاء بين كاتب وشخصياته الخيالية، بل كان محاولة فلسفية لاختبار مدى وعي هؤلاء الأبطال بما يمثلونه في قلوب الناس. هل كانوا راضين عن الطريقة التي تم تصويرهم بها؟ هل كانت شخصياتهم تتناغم مع واقعهم التاريخي والفكري؟ كان هذا السؤال هو المفتاح لفهم أعمق لحياة هذه الشخصيات، وكأن القرنه كان يشاركهم في لحظة وعي فلسفي نادرة، حيث يصبح الأبطال أحرارًا في تشكيل مصائرهم، رغم كونهم جزءًا من قصة تاريخية لا يملكون من أمرها شيئًا.

وفي الختام، تقودنا الفريديس إلى سؤال فلسفي عميق: ما هو التاريخ إن لم يكن تجسيدًا لما هو أسمى من الزمن نفسه؟ وما الذي يجعلنا نعيش في ذاكرة الأجيال إلا تلك اللحظات التي تخلدها الأرواح الطيبة، كما في قصص الحب والعدل والتضحية؟ إن التاريخ الذي تكتبه الحروب هو تاريخ يكتبه الإنسان من قلب المعاناة. وفي النهاية، ربما يكون الانتصار الحقيقي هو في قدرة الإنسان على الحفاظ على الأمل والحب، حتى عندما يغلفه الظلام.