نبض البلد - يوم الأرض: المستوطنات تتمدد.. والأرض تنكمش!
المحامية هبة أبو وردة
تحل الذكرى الـ49 ليوم الأرض، في ظل مشروعًا لتهويد الأرض بالكامل، بينما كان ذكرى سنوية يُحييها الفلسطينيون تخليدًا لانتفاضتهم ضد مصادرة السلطات الإسرائيلية آلاف الدونمات من الأراضي في الجليل والمثلث والنقب عام 1976، بات اليوم يشهد على مشروع ممنهج ينفذ بسرعة قياسية، بدعم سياسي وتشريعي علني، ضاربا بعرض الحائط كل القوانين الدولية.
هذه السنة ليست كسابقاتها؛ فلم تعد إسرائيل تخوض صراعا عشوائيا، ولم يعد الأمر مجرد توسع تدريجي أو قضم بطيء للأرض، فقد أصبحت تدير معركتها وفق استراتيجية واضحة، مدركة أن السيطرة الكاملة لا تتحقق إلا بإحكام القبضة على عناصر الدولة مجتمعة، كأنها قطع أحجية تضعها في مكانها، لتكتمل الصورة الكبرى لدولة مزعومة.
الدولة وفقا لما عرفتها اتفاقية مونتيفيديو هي كيان سياسي يتمتع بأربعة عناصر أساسية، إقليم محدد، سكان دائمون، حكومة قادرة على إدارة شؤونها، قدرة على الدخول في علاقات دولية، وباستقراء المشهد السياسي، يتضح جليا أن إسرائيل تسعى إلى بناء دولة قانونية فوق المساحة المسلوبة، طمعنا في أن تستمد شرعيتها من خلال فرض الوقائع وتحقيق عناصر الدولة؛ فهي لم تترك عنصرا من عناصر الدولة إلا وسعت لإحكامه في الضفة الغربية، أرضٌ تُعيد رسم حدودها بالجرافات والمستوطنات، شعب تُعيد هندسته عبر التهجير والاستيطان، حكومةٌ تُمارس صلاحياتها عبر الإدارة العسكرية والبلديات الاستيطانية، وعلاقات دولية تُبنى عبر التفاهمات الاقتصادية والاستثمارية التي تروج لوجود دائم على الأرض مما يمنح إسرائيل القدرة على الانخراط في الشؤون الدولية وكأنها دولة ذات سيادة.
ولأن إسرائيل تعي تماما أن تحقيق عنصر الأرض والسيادة، لا يمكن أن يتحقق في ظروف هادئة، ولا سبيل لسرق الأنظار عنها وإتاحة الفرصة المثالية بعيدًا عن الأضواء، وبأقل رد فعل دولي ممكن، سوى إشعال النار في العنصر الإنساني؛ لأن القراءة السياسية للمشاهد دائما ما تثبت أن الدم المسفوك يثير الاهتمام أكثر من الأرض المسلوبة، فبينما الأعين مشدودة نحو النار المشتعلة في غزة، تتحرك في الضفة آلة الاحتلال بكل دهاء، تمارس القتل بلمسةٍ خفية، وتُهندس الخريطة كما يشاء المستوطن وسلاحه، فتُبتلع الضفة بالمستوطنات بلا ضجيج وبلا شهود، في لعبة السياسية تجسد اللاعب الماهر الذي يحرك القطع كما يشاء، مطمئنا إلى أن العالم يراقب الملك وهو يُقتل، بينما تُستبدل البيادق واحدة تلو الأخرى دون أن يلاحظ أحد.
وهذا من إحدى أخطر استراتيجيات إسرائيل عبر التاريخ قدرتها على توجيه الأنظار إلى ملف معين، بينما تعمل بصمت على ملف آخر أكثر أهمية؛ فالاحتلال يدرك أن الإنسان بلا أرض هو مجرد قضية قابلة للحل والتفاوض، لكن الأرض بلا إنسان هي انتصار "مؤسفًا لكن نهائي لا رجعة فيه”، تكتيك مدروس استخدمته إسرائيل في عام 2014، يتكرر اليوم بشكل أكبر، فبينما تُشعل العدوان على غزة، تُكثف عمليات التوسع الاستيطاني في الضفة بشكل ملحوظ، لتشغل العالم بجبهة ملتهبة في حين تستغل الظرف لترسيخ وقائع جديدة في جبهات أخرى، أي إشغال الخصم بجراحه حتى لا يلتفت إلى ما يُسرق منه، حتى إذا رفع رأسه، وجد أن المعركة قد حُسمت دون أن يشارك فيها.
فبينما القطاع ينزف بصوت مسموع، ويدفع الثمن بصخبٍ مدوٍ، الضفة، تختنق بصمتٍ قاتل، وتدفع الثمن ببطءٍ مرير، تعزيزات عسكرية إسرائيلية لم تشهدها الضفة منذ عام 2000، في إطار عملية "السور الحديدي”،حيث قرر الجيش الإسرائيلي الدفع بدبابات لتجتز تراب الضفة، وتمخر شوارع المخيم، أما القناصة فهي فوق أسطح المنازل، والطائرات المسيّرة تحلق كعيونٍ عمياء تبحث عن هدفٍ جديد، والأزقة التي حملت ذاكرة الانتفاضات السابقة تئن تحت وطأة اقتحامٍ جديد، تزامنًا مع ذلك، تم إرسال ثلاث كتائب إضافية لتعزيز القوات الموجودة، مع عدم استبعاد استخدام سلاح الجو في العمليات المستقبلية.
طولكرم ونابلس، مدن محاصرة بلا أسوار، حيث يدور صراعٌ من نوعٍ مختلف، فقد شهدت مدينة طولكرم ومخيم نور شمس توترات ملحوظة، عمليات اقتحام واسعة النطاق، تدمير منازل وبنية تحتية، ونقاط التفتيش تحولت إلى معابر إكراه يومية، كأن الاحتلال يُجبر الفلسطيني على أن يبتلع الهزيمة مع كل خطوة، أن يشعر بثقل وجوده غير المرغوب فيه في وطنه، أما نابلس، فتعيش في ظلال التوسع الاستيطاني، حيث المستوطنون يأتون ليسكنوا الجبال، ثم يتمددون كأخطبوطٍ يلتف حول المدينة، يقطع طرقها، يطرد مزارعيها، ويجعل من الأرض مقبرةً صامتة لهويتها.
فقد تجاوزت آلة الاستيطان الإسرائيلية كل الخطوط، في قفزة استيطانية غير مسبوقة، بأرقام تتجاوز كل السنوات الماضية مجتمعة، وبوتيرة لم يسبق أن شهدتها الضفة منذ احتلالها، دون تحايل أو التدرج؛ فالفارق لا يقتصر على الأعداد فقط إنما شمل الجرأة والعلنية، حيث باتت تعلن مشاريعها الاستيطانية بشكل مباشر.
وفي سياق عرض نفسها كدولة، بدأت في اتخاذ خطوات جديدة في إعادة تشكيل الضفة الغربية وفق نموذج يجعلها تبدو كدولة ذات سيادة فعلية على الأرض، من خلال إصدار أوامر عسكرية وتنظيمية، تتحكم في استخدام الأراضي الفلسطينية، فتقيد وصول الفلسطينيين إليها بينما تُسخرها لمشاريع استيطانية وبنية تحتية تعزز حضورها في المنطقة، وإنشاء هيئات مدنية تدير شؤون المستوطنات، فتتحكم بالتخطيط العمراني والتراخيص، مما يجعلها صاحبة اليد الطولى في رسم مستقبل المنطقة ديمغرافيًا وإدارياً.
أما شبكة الطرق والجسور الاستيطانية، فهي ليست مجرد مشروعات بنية تحتية، بل أدوات لإحكام السيطرة وربط المستوطنات بالمدن الإسرائيلية، في مشهد يُراد له أن يُطمس حدود الاحتلال التقليدية ويُوهم بأن هذه الأرض جزء لا يتجزأ من إسرائيل، أما القضاء الإسرائيلي بدوره يفرض حضوره في الضفة، حيث تُدار القضايا وفق منظومة قانونية منفصلة عن السلطة الفلسطينية، مما يُكرّس واقعا تكون فيه إسرائيل صاحبة القرار السيادي على الأرض، وليس مجرد قوة احتلال مؤقتة.
وفي سعيها لترسيخ هذا الواقع دوليا، تعمل إسرائيل على دمج الضفة الغربية في شبكة الاقتصاد العالمي عبر مشاريع اقتصادية تُسوّق كفرص استثمارية جذابة، فقد أنشأت مناطق تجارية حرة مثل "بني نعيم” و”معاليه أدوميم”، تُقدَّم للعالم كبيئات اقتصادية مستقرة، تستقطب الشركات العالمية وتُشجع على الاستثمار في أراضٍ محتلة، في خطوةٍ تستهدف تطبيع السيطرة الإسرائيلية وإدخالها في حسابات المصالح الدولية.
كما توسع إسرائيل شبكة الربط التجاري والبنية التحتية، عبر تطوير الطرق والموانئ البرية والجوية التي تُدمج الضفة في الاقتصاد الإسرائيلي، بحيث تبدو المنطقة جزءا طبيعيا من منظومة اقتصادية واحدة، لا كأرضٍ محتلة تنتظر تقرير مصيرها، بهذه الخطوات لا تسعى إسرائيل فقط إلى فرض سيادتها على الأرض، بل إلى جعل هذا الواقع أمرا مقبولا دوليا، مستغلة المصالح الاقتصادية كمدخل لتأمين شرعية سياسية لما هو في جوهره استمرار لمشروع استيطاني قائم على القوة وفرض الأمر الواقع.
عبر هذه الاستراتيجيات الخفية، تُحيك خيوط الشرعية القانونية لتغلف واقع الاحتلال المؤقت عبر التلاعب بالنظام الدولي، لإعادة صياغة هوية كيان يدمج كل عنصر من عناصر الدولة ضمن إطارٍ يُشبه المعزوفة المتقنة، حيث يُزج القانون بالسياسة لتنتقل فكرة السيطرة على الأرض من مجرد احتلالٍ عابر، إلى حكاية تُنسج بخيوط قانونية تبني صورة دولة، متمنية بذلك أن يزدهر ما لم تسطيع تحقيقه بالقوة العسكرية وحدها.
ومن يقرأ التاريخ بعين فاحصة يعرف أن هناك سابقة تاريخية واضحة، وهي حالة جمهورية كوسوفو؛ فقد قامت ببناء كافة عناصر الدولة، بما في ذلك وجود حكومة منتخبة، وإدارة الأراضي، وشبكة من العلاقات الدولية مع بعض الدول الكبرى، الأمر الذي أدى إلى إعلان استقلالها في عام 2008، على الرغم من أنها كانت جزءا من يوغسلافيا سابقا، وأرضها كانت تحت الاحتلال الصربي في فترة من الفترات، لا خلاف أن مسألة الإعتراف الدولي بكوسوفو كدولة مستقلة موضوعا مثار جدل في الساحة الدولية، إلا إنها استطاعت أن تكون واقعا قائما، إسرائيل كما كوسوفو، تسعى إلى فرض أمر واقع عبر إقامة المستوطنات، وتطوير البنية التحتية، وتوسيع سلطتها الإدارية في الضفة الغربية؛ ففي الحالتين، يتم التركيز على بناء مؤسسات الدولة وتنظيم الأرض والموارد، حتى لو كانت تلك الأراضي محل نزاع أو تحت احتلال في سياق القانون الدولي.
على الرغم من أن ما تسعى إليه إسرائيل ليس أمرا قانونيا أو معترفا به دوليا، فهي لا تزال تواجه تحديات ضخمة على الصعيدين القانوني والدبلوماسي؛ فالقوانين الدولية التي تحظر الاستيطان في الأراضي المحتلة تقف في وجه محاولاتها كجدار من صوان، إلا أنه من الناحية النظرية، فإن محاولات إسرائيل المتواصلة لخلق واقع مادي وسياسي واقتصادي يستند إلى قوة الأمر الواقع، وإضفاء صفة الإستمرارية عليه، مستفيدة من الضغوط السياسية والتطورات الدولية، قد تمكّنها من تحقيق بعض أهدافها في الضفة الغربية على المدى الطويل، و إلباسها ثوب قانوني مُزيف يُمكن أن يُروّج على أنه "واقع جديد” في الساحة الدولية.
يوم الأرض هذا، لم يعد مجرد ذكرى لمواجهة ماضية، بل بات محطة لفهم مستقبل يُعاد تشكيله بهدوء، إسرائيل لا تتعامل مع الأرض كعنصر استراتيجي تُوظفه ضمن رؤية طويلة الأمد، حيث تُستخدم المستوطنات لإعادة تعريف مفهوم الاحتلال نفسه؛ فلم يعد الاحتلال مجرد سيطرة عسكرية مؤقتة، إنما أصبح حالة دائمة تُفرض بالاستيطان دون الحاجة إلى إعلان الضم رسمي، مما سيحولها إلى ملف هامشي يُفرغ من مضمونه، حتى يصبح الدفاع عنها مجرد نضال رمزي لا يؤثر في الوقائع المتغيرة؛ فإسرائيل لا تكتفي بفرض سيادتها بالقوة على أرض محتلة، إنها تحاول الترويج لنظرية أن الأرض "متنازع عليها"، بحيث يصبح التفاوض مستقبلا مجرد نقاش حول التفاصيل الإدارية لا أكثر.
فلم تعد تكفي شعارات التمسك بالأرض، باتت ضرورة بناء استراتيجيات مواجهة حقيقية، وإعادة توجيه الأنظار إلى هذا الخطر الداهم؛ فالأمر اليوم مرهونا بالضغط الدولي والمواقف العربية والفلسطينية، بالإضافة إلى دور محكمة العدل الدولية والمنظمات العالمية في استمرار تأكيد عدم شرعية أي سيطرة إسرائيلية دائمة على الأراضي الفلسطينية، قبل أن يصل هذا الطريق إلى نهايته المأساوية