قصي وهاشم والإيلاف ...

نبض البلد -


بطون متفرقة حول الحرم في بيئة قاسية لا تعرف الرحمة، عندها تصبح العشيرة هي الملجأ الوحيد الذي يحميك ويحمي حياتك، ولكن قد تكون قبيلتك قليلة العدد او متفرقة، وتضطر معها للدخول في تحالفات للحماية، وهذا ما حدث مع قصي بن كلاب بن مرة بن فهر الجد الرابع للرسول صل الله عليه وسلم.

هو مؤسس الوجود القرشي في مكة، وهو الذي انتزع السلطة على الحرم من خزاعة اخوال ابنائه، بمواجهة مسلحة بداية وتحكيم لاحقا، وبعدها ظهر الوجود القرشي كسدنة للبيت وجيران للحرم،  ادرك قصي أن البيت هو نقطة إجماع ديني وجذب اقتصادي ونفوذ سياسي، فاراد أن يربط قريش بالبيت. 

لم تكن العرب تسكن بجوار البيت أو في الحرم سابقا، وكان الأمر مستهجنا أن يقوم أحدهم بذلك، كانوا يؤدون عباداتهم في النهار ويخرجون من الحرم ليلا، ولم تكن قريش وحدة قبلية متماسكة قبل قصي، ولم تكن في كثرة ولا منعة ولا شدة بأس قبل قصي، ولذلك لجأ الى الحيلة في جعلهم سدنة البيت، بأن دخل البيت مع قريش نهارا وظلوا في الحرم حتى طلعت عليهم شمس اليوم التالي، وبالتالي تفاجأت العرب بهم وبتجمعهم حول البيت بعد أن كانوا متفرقين وانه لم يصبهم سوء ، وأصبح الأمر واقعا. 

ولتعزيز هذه المكانة قام بالسقاية والرفادة للحجاج والزائرين، للبيت وحيث أن البيت كان مقدسا لمعظم العرب، إلا قلة قليلة لم تكن تزوره او تقدسه، منهم بني تميم وبني أسد وغيرهم وهؤلاء ستكون لهم قصة بعد ذلك، وأحتفظ قصي باللواء وهي قيادة الجيش والندوة وهي الإشراف على دار الندوة التي انشاءها قرب البيت الحرام لتكون بيت الشورى، والحجابة وهي سدنة البيت  والسقاية توفير الماء، والرفادة وهي إطعام الحجاج.

وعند وفاته أوصى بكل هذه الأمور لأبنه عبد الدار، لأنه كان كبير أبنائه الخمسة من جهة، ولضعف فيه من جهة اخرى أراد أن يكون هذا الأمر له، فيحترمه أخوانه، ولكن من قام بالدور الحقيقي هو عبد مناف، يبدو أننا نعلق في نقل الرئاسة والطريقة التي ننقلها فيه، وهذا الباب باب واسع للفتن والقلاقل والتنافس. 

لم تظهر مشكلة زمن الأخوين عبد الدار وعبد مناف، ولكن جاء بعد عبد مناف هاشم، وهاشم يقوم بكل شيء، ولكن كل شيء لأبناء عمه، وهنا ظهر الخلاف بينهم، وبعدها وظهر حلف المطيبين لهاشم ومن معه، وحلف الاحلاف لبنى عبد الدار ومن معهم، وانتهى الخلاف بتقسيم المهام الخمسة بين أبناء العم، فأخذ هاشم السقاية والرفادة، وهذه ما ستأتي على أموالهم واموال قريش لاحقا، وأخذ بنو عبد الدار اللواء والندوة والحجابة.

ما حققه البيت الحرام لقريش اكله البيت، هل هذا ما حدث، ام أن هذه الظروف ستخلق الحل النهائي لمشاكل قرش الإقتصادية والسيادية والإجتماعية، فقد دخلت قريش في القرن الخامس الميلادي في أوضاع اقتصادية مأساوية وفقر شديد، وظهرت بينهم عادة الإعتفار، وهي أن يذهب الرجل بأهل بيته إلى موقع معروف ويضرب عليهم خباء حتى يموتوا جميعا من الجدة التي أصابت الناس في هذا القرن.

 فبلغ ذلك هاشما فقام فيهم خطيبا " إنكم احدثتم حدثا تقلون فيه وتكثر العرب،  وتذلون وتعز العرب، وأنتم أهل البيت والناس لكم تبع، ويكاد هذا الاعتفار أن يأتي عليكم،  ثم جمع كل بني اب على رحلتين للتجارة،  فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير من عشيرته حتى صار فقيرهم كغنيهم " الجامع لاحكام القرآن للقرطبي.

وهنا يظهر الفرق بين القائد والقائد، فكم من قائد كان نعمة لقومه،  وكم منهم كان لعنة ونقمة.

وبدأ رحلتي الشتاء والصيف، لاحظ هاشم أن البضاعة في اسواق اليمن وخاصة عدن ارخص بكثير من مثيلاتها في الشام والعراق، وذلك كان نتيجة لإضطراب طرق التجارة العالمية أو بسبب حروب القبائل التركية في ذلك الجزء من العالم، أو بسبب المعارك التي كانت تحدث بين الفرس والبيزنطيين كل فترة من الزمن، كل ذلك خلق الفرصة المناسبة لهاشم ليستغل الوضع، ويساهم بحل المشكلة بإيجاد طريق التجارة البديل إلى غزة عبر الجزيزة العربية ومن ثم إلى أوروبا، او إلى موانيء البحر الأحمر عبر الجزيرة العربية ومن ثم إلى الاسكندرية وبعدها إلى أوروبا.

وحتى يأمن هاشم طريق التجارة دفع الإيلاف للدول وزعماء العشائر والقبائل على هذه الطريق، ومنها التي لم تكن تزور البيت الحرام أو تقدسه، وهو شيء كان يدفعه هاشم لرؤساء القبائل من الربح،  ويحمل لهم متاعا مع متاعه،  ويسوق إليهم ابلا مع أبله ليكفيهم مؤنة الأسفار،  ويكفي قريش مؤنة الأعداء،  فكان ذلك صلاحا لحال  قريش وصلاحا لهؤلاء جميعا، ومن هنا تظهر قصة سورة إيلاف قريش وذلك الفضل من الله الذي من به عليهم، ليكون البيت منة من جهة والموقع منة من الجهة الأخرى.

ما فعلة قصي من جهة وما فعلة هاشم من الجهة الأخرى، هو الذي أعطى قريش تلك الصورة التي كانت عليها، عندما ظهر الرسول صل الله عليه وسلم، وتلك الصورة ستكون لها أهمية قصوى في أن تستقر الجزيرة العربية، وتتوحد وتتبوء مكانتها الدينية والإجتماعية والإقتصادية، هل كان ذلك إجتهاد من قصي وهاشم، أم كانت الأقدار تتحرك حتى تهيىء الجزيرة لأمر جلل سيغير وجه العالم لاحقا. 

وهذا ما حصل وهي حياتنا تسير بين إجتهاد منّا في جهة، وأقدار تتحكم بنّا من جهة أخرى. 

الصورة أتضحت لي بعد قراءة كتاب الربيع الأول لوضاح خنفر والشكر له على كتابه الجميل. 

إبراهيم أبو حويله ...