نبض البلد - د. أيوب أبودية
تختلف معدلات الخيانة بين المجتمعات بشكل ملحوظ، مما يطرح تساؤلاً حول الأسباب الكامنة وراء هذه الاختلافات. فبينما نجد مجتمعات تُعلي من قيم الوفاء والإخلاص، نرى أخرى تتسامح مع الخيانة بدرجات متفاوتة. هذا الاختلاف لا يعود إلى سبب واحد، بل إلى مجموعة معقدة من العوامل المختلفة.
يرتبط عدم الحديث عن حالات أو فترات تاريخية برزت فيها سلوكيات تعاون مجموعات من الشعب مع قوى خارجية أو نظام قمعي ضد مصلحة الأغلبية، أو العكس، فترات تجسدت فيها الوحدة الوطنية. ولا يمكن إلصاق صفة "الخيانة" بشعب بأكمله، بل بفئات أو أنظمة حكم أو ظروف معينة.
أمثلة تاريخية لفتَرَات شهدت تعاونًا مع العدو في فرنسا تحت الاحتلال النازي (1940-1944) وذلك بغرض البقاء. فنظام فيشي الفرنسي بقيادة الجنرال بيتان، وبعد الهزيمة السريعة أمام ألمانيا، رأى الكثيرون في نظام فيشي وسيلة للحفاظ على قدر من السيادة وإدارة الشؤون الداخلية وتجنب دمار أكبر. بالنسبة للبعض، كان تعاونًا مبدئيًا (معاداة الشيوعية، معاداة السامية)، وللبعض الآخر كان فرصة اغتنموها، وغيرهم دعمها خوفا، حيث ساعد النظام والمتعاونون في قمع المقاومة.
وفي بعض القبائل العربية في فلسطين تعاون بعض الشيوخ وكبار الملاكين مع المشروع الصهيوني في بداياته، ببيع الأراضي لليهود. ويعود السبب إلى ضعف الوحدة الوطنية، والانقسامات العائلية والعشائرية، والفساد، والجشع المالي (بيعت الأراضي بأسعار مرتفعة). كانت "خيانة" النخب في بعض الأحيان على حساب مصالح الفلاحين والجماهير.
وفي العراق بعد الغزو الأمريكي عام 2003 ظهر العامل الطائفي كحافز لتعاون بعض السياسيين والجماعات مع قوى الاحتلال ضد جماعات أخرى، وتشكيل ميليشيات طائفية. والسبب انهيار الدولة المركزية، والصراع الطائفي المتراكم تاريخيا، والدعم الإقليمي، والرغبة في الانتقام أو الحصول على سلطة في الفراغ السياسي الجديد. هنا، "الخيانة" كانت غالبًا لصالح جماعة ضد أخرى ضمن النسيج الوطني نفسه.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية انقسم السكان الأصليين مثل قبائل الكرو (Crow) والـبوني (Pawnee) وتحالفوا مع الجيش الأمريكي ضد قبائل أخرى مثل الـشايان والـلاكوتا، والسبب هو الصراعات التاريخية والتنافس على الأرض والموارد بين القبائل نفسها. اذ رأت هذه القبائل في القوة الأمريكية الجديدة حليفًا يمكن أن يساعدها في هزيمة أعدائها التقليديين، دون إدراك كامل أن المصير النهائي سيكون هزيمتهم جميعًا.
وبالمقابل، هناك أمثلة تاريخية لشعوب تجسدت فيها الوحدة والصمود، فبريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية (العامل الوطني والقيادة) صمد الشعب البريطاني خلال "معركة بريطانيا" والسبب هو وحدة وطنية قوية تحت قيادة تشرشل، وشعور بالهوية المشتركة ضد عدو خارجي، وقدرة مؤسسات الدولة على الحفاظ على الروح المعنوية. فرفض الشعب فكرة التفاوض مع هتلر رغم الصعوبات الهائلة.
اما في الجزائر خلال حرب التحرير (1954-1962) (العامل الوطني والديني) فوجدت جبهة التحرير الوطني دعم الشعب الجزائري الواسع له، والسبب هو وحدة الهدف (الاستقلال عن فرنسا)، وتشكيل هوية وطنية موحدة في مواجهة المستعمر، واستخدام الدين والإعلام كأدوات لتعبئة الجماهير. كانت التضحيات الهائلة دليلاً على التزام جماعي نادر.
وفي فيتنام خلال الحرب ضد الولايات المتحدة تواجد العامل الأيديولوجي والوطني الذي دعم صمود الشعب الفيتنامي شمالاً وجنوباً رغم القصف الأمريكي الهائل. والسبب مزيج من القومية القوية والأيديولوجيا الشيوعية المتماسكة، والقيادة الكاريزمية لهو شي منه، والخبرة الطويلة في حرب العصابات. كان هناك إحساس قوي بالهدف المشترك في تحرير وتوحيد الوطن.
وفي دول الخليج خلال أزمة الحصار (قطر 2017-2021) بزغ التماسك الداخلي في قطر خلال فترة الحصار بفعل نجاح الخطاب الوطني في تعبئة الشعب حول القيادة، والاكتفاء الذاتي الاقتصادي السريع، واستخدام الإعلام لتعزيز مشاعر الوحدة والرفض للضغوط الخارجية. فشعور الحصار عزز التماسك الداخلي كما فعل في غزة البطلة.
خلاصة القول إن "الخيانة" أو "الوحدة" ليست صفات متأصلة في شعب، بل هي استجابات لظروف تاريخية وسياسية واقتصادية واجتماعية بالغة التعقيد. فغالبًا ما تظهر السلوكيات التي تُوصف بالخيانة في لحظات انهيار الدولة (العراق، فيشي) والانقسامات المجتمعية العميقة (طائفية، عشائرية) والضغوط الاقتصادية أو الخوف من الإبادة (بيع الأراضي، تعاون القبائل).
بالمقابل، تظهر الوحدة والصمود عندما تكون هناك هوية وطنية أو دينية موحدة وقوية، وقيادة قادرة على التعبئة. فالاختلاف في معدلات الخيانة بين المجتمعات ظاهرة معقدة تعكس تفاعل عوامل متعددة تشمل البنى الثقافية، والظروف الاقتصادية، والخلفيات التاريخية، والتطور التكنولوجي. إن فهم هذه العوامل يساعدنا في تقدير تعقيد السلوك البشري وتنوعه عبر الثقافات المختلفة، دون إصدار أحكام قيمية على مجتمع محدد دون آخر.