نبض البلد -
عماد عبدالقادر عمرو
رئيس مجلس محافظة العقبة سابقاً
لم تعد المدن تُقاس اليوم بمساحتها أو عدد أبراجها، بل بقدرتها على مواكبة التحوّل الرقمي والاستجابة لاحتياجات الإنسان المعاصر.
فالعالم يعيش مرحلة إعادة تشكيل شاملة، تتقاطع فيها التكنولوجيا مع البيئة والاقتصاد والمجتمع لتصنع ما يُعرف بمدن المستقبل.
ومن أبرز النماذج الحديثة التي تعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والمدينة يبرز مفهوم المدينة ذات الخمس عشرة دقيقة، الذي يسعى إلى جعل كل ما يحتاجه الفرد — من سكن وعمل وخدمات تعليمية وصحية وترفيهية — في متناول يده خلال ربع ساعة سيرًا أو بالدراجة، بما يحقق جودة حياة أعلى ويقلل الضغوط اليومية والازدحام والتلوث.
وفي الأردن، تتجه الأنظار نحو العقبة باعتبارها المدينة الأكثر جاهزية لتطبيق هذا النموذج، مستفيدة من موقعها الاستراتيجي وبيئتها الاستثمارية الخاصة ورؤية القيادة الهاشمية التي جعلت التحول الرقمي ركيزة للتنمية الوطنية. ومع إطلاق مشروع مدينة العقبة الرقمية بأيدي وكفاءات أردنية، تخط العقبة طريقها نحو مرحلة جديدة من التحول الرقمي، حيث يحتضن المشروع بنية تحتية متقدمة تشمل أول محطة إنزال كوابل بحرية بسياسة الوصول المفتوح، وثلاثة كوابل بحرية رئيسية تعزز مكانة الأردن كبوابة رقمية إقليمية، إضافة إلى مراكز بيانات حديثة ومنظومة أمنية متكاملة، فضلاً عن مرافق لتدريب وتأهيل الشباب في مجالات تكنولوجيا المعلومات والأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي وصناعة المحتوى الرقمي.
تمثل هذه المبادرة ترجمة عملية للرؤية الملكية في بناء اقتصاد معرفي قائم على الابتكار، حيث يصبح الإنسان محور كل قرار.
تمتلك العقبة مقومات استثنائية تجعلها نموذجًا مناسبًا للمدينة المتكاملة، بدءًا من الموقع الجغرافي المتميز والميناء البحري الوحيد للأردن، مرورًا بالبنية الرقمية الحديثة والطاقة النظيفة، ووصولًا إلى التنظيم العمراني الذي يسمح بتصميم شبكة أحياء متقاربة لتسهيل الوصول إلى الخدمات.
ورغم هذه الإمكانيات، يواجه تطبيق نموذج المدينة ذات الخمس عشرة دقيقة تحديات متعددة على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والإداري والتقني، تتطلب استثمارات كبيرة، وضمان استفادة جميع السكان، وإدارة مرنة متكاملة بين الجهات الرسمية والقطاع الخاص، إلى جانب تطوير أنظمة رقمية تحمي خصوصية الأفراد وتوازن بين الأمن والحرية.
على المستوى الدولي، تستخدم المدن الذكية كأداة للتأثير الاقتصادي والتنموي، لكن الأردن يمتلك فرصة فريدة لتطبيق هذا النموذج بطابع وطني مستقل يجمع بين الابتكار والتكنولوجيا والعدالة الاجتماعية، ويبرز دور العقبة كنموذج أردني وعربي متوازن بين الانفتاح العالمي والمصالح الوطنية.
إن مدن الخمس عشرة دقيقة ليست مجرد تخطيط حضري، بل رؤية حضارية متكاملة تسعى إلى إعادة تعريف الحياة اليومية بما يضع الإنسان في قلب المدينة. ومن خلال تطبيق هذا النموذج بحكمة وشفافية في العقبة، يمكن للمدينة أن تصبح مختبرًا حيًا للتنمية المستدامة، ومدينة ذكية توفر الحرية والأمان والفرص لسكانها، لتكون بوابة الأردن نحو عصر جديد من الابتكار والتقدم.