كل الطرق الرقمية لا تُغني عن درب الطمأنينة

نبض البلد -
كل الطرق الرقمية لا تُغني عن درب الطمأنينة
حسام الحوراني خبير الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي
في هذا العالم الذي يتحرك بسرعة الضوء، حيث تتزاحم الأخبار، وتتسارع الابتكارات، وتتشابك التحديات، ويصعد الذكاء الاصطناعي وحواسيب الكم ليعيدا تشكيل ملامح الحياة والعمل، يقف الشاب العربي في مفترق طرق. طريق يَعِده بالفرص الرقمية والتقنيات المتقدمة، وآخر يُرهقه بضغط التوقعات المجتمعية، وثالث ينهكه بأسئلة الوجود والهوية… وكل الطرق أحيانًا تبدو وكأنها تنتهي إلى جدارٍ من التعب أو الضياع.
في خضم هذا الزحام، وسط ضوضاء الذكاء الاصطناعي، وتحديات العمل، والقلق من المستقبل، ينسى كثيرون الحقيقة الكبرى… تلك التي تملأ القلب يقينًا، وتُعيد للنفس توازنها: "ففرّوا إلى الله".
ففرّوا إلى الله، ليست مجرد دعوة عابره، بل هي صرخة وجودية، توجه البوصلة حين تفقد الاتجاه. تذكير بأن في أعلى مراتب الضعف الإنساني، هناك قوة لا تنضب… مصدرها السماء، وبوصلتها القلب.
الشاب الذي يشعر أن الحياة تُطبق على صدره، بين أحلام مؤجلة، وضغوط اقتصادية، ومجتمع لا يرحم زلته… يحتاج شيئًا واحدًا أولًا: أن يركن إلى ركن شديد لا يتزعزع، أن "يفرّ إلى الله". فليس كل فرار هروب، بل بعضه عودة. عودة إلى الأصل، إلى الطمأنينة، إلى من يعلم ما تُخفي القلوب قبل أن تنطق به الألسن.
"ففرّوا إلى الله" لا تعني ترك الطموح، ولا التنصل من الطموح، بل تعني أن تنطلق من منصة روحية صلبة، أن تزرع قدميك في أرض الثقة بالله قبل أن ترفع عينيك إلى سماء الحلم. حين تفرّ إلى الله، فإنك تقول للعالم: لدي سند لا يسقط، ونور لا يخبو، وأمل لا يموت.
في عصر أصبحت فيه "البيانات" عملة، و"الخوارزميات" مرشدًا، و"الترندات" بوصلتنا اليومية، ينسى البعض أن الإنسان ليس مجرد كتلة ذكاء، بل قلب نابض، وروح تئن وتشتاق وتضعف. وكل خوارزميات العالم لن تعطيك الطمأنينة التي يمنحهاك سكون لحظة خالصة بينك وبين ربك.
كم من شاب ظن أن القوة في منصب، أو مال، أو عدد المتابعين على وسائل التواصل… ثم حين خسرها، خسر نفسه؟ وكم من شاب عرف الله في لحظة صدق، فابتسم قلبه رغم الفقر، ووقف شامخًا رغم الظروف، وكتب اسمه في التاريخ، لا في الترند؟
حين تضيق بك السبل، وتثقل الأيام ظهرك، خذ خطوة للوراء، لا لتستسلم، بل لتعيد التموضع، وتفرّ إلى الله. ليس هناك أنقى من هذه العودة… عودة المشتاق، لا اليائس. عودة الباحث عن المعنى، لا الهارب من الواقع. فالله لا ينتظر الكمال، بل الصدق.
"ففرّوا إلى الله" هي أيضًا دعوة للعمل الجاد لا للتكاسل. من يفهم معنى التوكل، لا يتقاعس، بل يعمل أكثر لأنه يعلم أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا. من يعرف أن الله يرى: لا يغش، ولا يكذب، ولا يسرق ولا يقتل، ولا يزني، ولا يساوم على قيمه. من يعرف أن الله كريم: لا ييأس من تأخّر الرزق أو تأجّل الحلم.
في كل جيل، هناك من اختار أن تكون له بصمة. ليس لأن الطريق كان سهلًا، بل لأنه لم يواجه العالم وحده. حمل فكرته في قلبه، وسلاحه كان الإيمان. الإيمان بأن هناك من يسمعه حين لا يسمعه أحد، ويهديه حين تتخبطه الحيرة، ويمسكه حين تهوي به الحياة.
قد تكون طالبًا يشعر أن مستقبله ضبابي، أو موظفًا يرى أن جهده لا يُقدّر، أو رائد أعمال يتخبط بين الفشل والقلق… لكن اعلم: كل من فرّ إلى الله، عاد أقوى.
اجعل لك لحظات هدوء، في فوضى اليوم. لحظات تسجد فيها، لا لتطلب فقط، بل لتشكر، لتبكي، لتضع تعبك، وقلبك، وأحلامك، بين يدي من لا يعجزه شيء. ستخرج من هذه اللحظات، كأنك شُحنت بطاقة لا يعرفها إلا من ذاق الطمأنينة.
"ففرّوا إلى الله" ليست ضعفًا، بل قمة القوة. لأنك حين تفرّ إليه، لا تُلقي عزيمتك، بل تشحنها بالإيمان. ولا تترك معركتك، بل تعود إليها بروح لا تُهزم.
في عالم يزداد ضجيجه كل يوم، تذكّر أن السلام الحقيقي لا يُفرض من الخارج، بل يُولد من الداخل، من لحظة صفاء بينك وبين خالقك، من سجدة تُودِع فيها وجعك وأحلامك وقلقك، وتقوم منها أخفّ، أصفى، وأقوى.
لا تسمح لاضطراب الحياة أن يسكن قلبك، ولا للظروف أن تنتزع منك إنسانيتك. كل ما تحتاجه أحيانًا ليس قوة خارقة، بل طمأنينة تُولد من اليقين، من الثقة بأن الله معك، يسمعك، ويعلم ضعفك، ويريد بك خيرًا.
"ففرّوا إلى الله"… لأن في الفرار إليه أمان من كل خوف، وسلام من كل صخب. هو وحده القادر أن يُطفئ اضطرابك بنظرة رحمة، وأن يزرع في قلبك سكينة لا تهزها أعاصير الدنيا.فكن من الذين يُضيئون الزحام بهدوئهم، ويُغيّرون العالم بسلامهم .لا تسمح للألم أن يُحَوِّلك إلى قاسٍ، ولا للفوضى أن تُطفئ إنسانيتك. كن أنت المختلف.
اجعل من قلبك وطنًا صغيرًا للسلام، ومن عقلك منارة للأمل، ومن يديك وسيلة للبناء لا للهدم. نحن لا نحتاج إلى مزيد من الغضب في هذا العالم، نحتاج إلى شباب يختارون الحكمة على الانفعال، والمبادرة على التذمر، والحوار على الصراخ.
في زمن أصبح فيه كل شيء قابلًا للبحث، وكل سؤال له إجابة رقمية، قد تهدينا الخوارزميات إلى أقرب معلومة، وأدق تحليل، وأسرع طريق. لكنها مهما بلغت من الدقة، لن تهدينا إلى الطمأنينة… لأن الطمأنينة لا تُشتق من معادلة، بل تُمنح من ربٍّ يعلم ما في الصدور. المعلومة تُغذّي العقل، أما الطمأنينة فلا يزرعها إلا الإيمان.
في عالم يبحث فيه الجميع عن سند في الخارج، عد إلى المصدر… تجد القوة، الطمأنينة لا يصنعها وعي رقمي بل سكينة القلب بسجدة صادقة، وتذكّر أن السند الحقيقي في الداخل… في الإيمان، في اليقين، في الله.
ان الطمأنينة الحقيقية ليست تطبيقًا… بل يقينًا
ربما ترشدك الخوارزميات للمعلومة… ولكن الله يهديك للطمأنينة
وان السكينة لا تصنعها الشاشات… بل سجدة تلامس السماء
وعندما تزدحم الحياة بالضجيج، فلا ملجأ إلا لله