حين تقترب المعجزة من الحياة اليومية : التقدم في الحوسبة الكمومية

نبض البلد -
حسام الحوراني 

في زاوية صغيرة من مختبرات المستقبل، حيث لا تُسمع أصوات ولا تُرى حركة، هناك جسيمات دون ذرية تتراقص داخل دوائر فائقة البرودة، في صمت يشبه السحر. ما يحدث هناك ليس مشهدًا من رواية خيال علمي، بل هو قلب ثورة علمية تحمل اسم الحوسبة الكمومية، ويقودها نوع فريد من التكنولوجيا يُعرف بـالكيوبتات القائمة على الدوائر الفائقة التوصيل.
لكن قبل أن نغوص في التقنية، دعونا نطرح السؤال الأهم: لماذا يجب أن نهتم؟ وما علاقة هذا التقدم الغامض في الفيزياء بحياتنا اليومية كمواطنين، وطلاب، وأطباء، ورجال أعمال؟ الجواب باختصار: هذا التقدم قد يُغيّر كل شيء.
ما هي الدوائر الفائقة التوصيل؟ هي دوائر كهربائية مصنوعة من مواد فائقة التوصيل، قادرة على تمرير الكهرباء دون أي مقاومة عندما تُبرد لدرجات قريبة من الصفر المطلق. عندما تُستخدم هذه الدوائر في بناء الكيوبتات – وهي الوحدة الأساسية في الحوسبة الكمومية – فإنها تصبح منصة قوية لخلق حالات كمومية مستقرة تُستخدم في إجراء حسابات لا يمكن لأي حاسوب تقليدي تنفيذها، حتى لو استهلكت عمر الكون كله.
في السابق، كانت الحوسبة الكمومية مجرد نظرية معقدة لا تغادر جدران الجامعات. لكن اليوم، ومع التقدم السريع في تصنيع الكيوبتات الفائقة التوصيل، أصبحت الشركات مثل IBM، Google، Rigetti، تبني حواسيب كمومية حقيقية تعتمد على هذه التكنولوجيا، وتُحقق فيها إنجازات مذهلة.
تخيل حاسوبًا يستطيع محاكاة سلوك الدواء داخل جسم الإنسان في دقائق، أو التنبؤ بدقة بسلوك السوق المالي قبل أسابيع، أو ابتكار مواد جديدة للطاقة الشمسية، أو حتى فك شفرات الأمراض الوراثية. كل هذا لم يكن ممكنًا – ولا يزال مستحيلاً – باستخدام الحوسبة الكلاسيكية. لكن مع الكيوبتات فائقة التوصيل، بدأت هذه السيناريوهات تدخل حيز التجربة والتطبيق.
كيف سيؤثر ذلك على حياتنا؟
الطب والعلاجات الخارقة : خلال سنوات قليلة، قد نصل إلى مرحلة يُصبح فيها تشخيص الأمراض وعلاجها يعتمد على حواسيب كمومية تحلل الجينات وتُصمم علاجات مخصصة بدقة لا تُصدق. قد تظهر أدوية للسرطان تُكتشف في أيام، وعلاجات نادرة لأمراض مستعصية تُصنع خصيصًا لجيناتك أنت.
أمن رقمي غير قابل للاختراق : مع التقدم في هذه الكيوبتات، سنتمكن من الوصول إلى تشفير كمومي يجعل البيانات الرقمية غير قابلة للاختراق. في عالم يهدده القراصنة الرقميون، سيكون لديك بريد إلكتروني لا يمكن لأحد فتحه، واتصالات حكومية لا يمكن التجسس عليها، وبطاقات مصرفية تحمي نفسها ذاتيًا.
تجارب يومية أسرع وأكثر ذكاءً : هل واجهت تأخيرًا في تحميل صفحة؟ أو تعطل تطبيق ذكي؟ بفضل الحساب الكمومي، ستحصل على سرعة استجابة فورية. تطبيقاتك ستتنبأ بما تحتاجه قبل أن تطلبه، والروبوتات المنزلية ستتفاعل معك كما يتفاعل الإنسان.
نقلة نوعية في الاقتصاد : البنوك، والطيران، وسلاسل الإمداد، وحتى تسعير المواد الخام... ستُدار كلها بخوارزميات كمومية فائقة القدرة على التنبؤ، مما يُقلل الخسائر ويزيد من الكفاءة. هذا قد ينعكس على حياتك في شكل خدمات أرخص، أسرع، وأكثر دقة.
الكيوبتات الفائقة التوصيل هي الأمل الأكبر لأنها ببساطة الأكثر استقرارًا وقابلية للتوسع حتى الآن. فبينما تعاني أنواع أخرى من الكيوبتات من مشاكل عدم الثبات أو صعوبة التصنيع، استطاعت الدوائر فائقة التوصيل أن تقدم أداءً عاليًا ومستقرًا في تجارب متعددة، مما يجعلها المرشح الأول لبناء أول حاسوب كمومي تجاري واسع الاستخدام.
بل إن شركة Google أعلنت بالفعل في تجاربها منذ 2019 تحقيق ما يُعرف بـ"التفوق الكمومي"، عندما نجح معالجها الكمومي "Sycamore" – المبني على هذه الدوائر – في تنفيذ عملية استغرقت 200 ثانية، بينما تحتاج أقوى الحواسيب التقليدية إلى الاف السنوات لحلها.
أنظمة الكيوبتات الفائقة التوصيل تحتاج إلى بيئة شديدة البرودة (قريبة من الصفر المطلق)، وهذا يجعل تشغيلها معقدًا ومكلفًا. لكن الشركات تعمل حاليًا على تصغير أنظمة التبريد وتطوير رقائق كمومية يمكن تشغيلها في بيئات أكثر واقعية.
اما بالنسبة للعالم العربي، فان الفرصة أمامنا. الاستثمار في البحث الكمومي، دعم الجامعات، إرسال بعثات علمية، وإنشاء شراكات مع شركات عالمية، يمكن أن يجعل دولًا عربية في طليعة هذا السباق. لا نحتاج إلى أن نبدأ من الصفر، بل أن نستثمر في العقول والاتصال بالعالم.
اخيرا، التقدم في الحوسبة الكمومية باستخدام الكيوبتات القائمة على الدوائر الفائقة التوصيل ليس مجرد إنجاز فيزيائي، بل هو بداية فصل جديد في قصة الإنسان مع التقنية. فصلٌ نعيد فيه تعريف الممكن، ونعبر فيه من المعرفة إلى المعجزة.