نبض البلد -
المهندس سعيد المصري
في ظل النظام الدولي المتعدد الأقطاب الآخذ في التبلور، تزداد الحاجة إلى إعادة ترتيب المشهد الإقليمي وتعزيز التنسيق الاستراتيجي. تقترح هذه الورقة تشكيل تكتل اقتصادي جديد يضم بلاد الشام والعراق ودول الجزيرة العربية، ليكون شريكًا جنوبيًا موحدًا للاتحاد الأوروبي. ومن خلال الانتقال من علاقات ثنائية مجزأة إلى شراكة مؤسسية بين تكتلين، يُعاد تموضع المنطقة كمحرك للرخاء المشترك، وسلاسل إمداد resilient، وتحول اقتصادي أخضر.
يشهد النظام العالمي تحولًا عميقًا يتجلى في تراجع الهيمنة الأحادية، وعودة التنافس بين القوى الكبرى، وبحث الدول الإقليمية عن قدر أكبر من الاستقلال الاستراتيجي. وبالنسبة للاتحاد الأوروبي، أدت هذه التحولات إلى ضرورة تنويع الشراكات، وتعزيز أمن الطاقة، وإحياء منظوماته الصناعية. في الوقت نفسه، تقف منطقة الشرق الأوسط عند مفترق طرق، مع وجود تركيبة سكانية شابة، وأجندات تنويع اقتصادي، وحاجة ملحة إلى تنسيق اقتصادي عابر للحدود. في هذا السياق، يبرز التحالف المعاد تصوره بين الاتحاد الأوروبي وتكتل بلاد الشام والعراق والجزيرة العربية كمسار استراتيجي وواعد.
تستجيب فكرة تشكيل هذا التكتل لجملة من الأولويات المشتركة، من أبرزها السعي إلى التكامل الجيوسياسي لتقليص التجزئة وتعزيز قدرة المنطقة التفاوضية على الساحة الدولية، والتكامل الاقتصادي الذي يجمع بين وفرة الطاقة والموقع الجغرافي والعمق الزراعي ورأس المال البشري، والاصطفاف الاستراتيجي للتعامل مع التحديات العالمية مثل تغير المناخ، وأزمات الطاقة، والتجارة، والهجرة. إن توحيد القدرات بين هذه الدول من شأنه أن يعزز نفوذها الجماعي، ويدفع الإصلاحات، ويجعلها شريكًا فاعلًا في الاقتصاد العالمي.
في هذا السياق، يمكن للاتحاد الأوروبي أن يؤدي دورًا محوريًا في تحفيز تشكيل هذا التكتل. فبخبرته الطويلة في التكامل الإقليمي، يمتلك أدوات فاعلة مثل الامتيازات التجارية التفضيلية، والحوافز الاستثمارية المصممة خصيصًا، وحزم الدعم الفني المشروطة بالتنسيق بين دول المنطقة. ومن خلال اتفاقيات على مستوى التكتل، وإتاحة الوصول إلى صناديق الابتكار الرقمي والأخضر الأوروبية، ومنح مزايا تفاوض جماعية، تصبح الوحدة خيارًا ذا مردود ملموس. كما يمكن للاتحاد الأوروبي أن يدعم إنشاء منصات حوار بين الفاعلين الرئيسيين في العراق وبلاد الشام والخليج، بما يعزز بناء الثقة وصياغة رؤية اقتصادية مشتركة. إن معاملة هذا التكتل كشريك متكافئ في ملفات الاقتصاد والمناخ من شأنه أن يعزز مصالح الاتحاد طويلة الأمد في جوار جنوبي أكثر استقرارًا وتماسكًا.
إن محاور التعاون الاستراتيجي بين الجانبين متعددة وتشمل مجالات الطاقة النظيفة، حيث يمكن تأسيس ممرات إمداد للهيدروجين الأخضر والطاقة الشمسية بتمويل مشترك بين الاتحاد الأوروبي والصناديق السيادية الخليجية. كما أن التكامل الصناعي والتجاري يوفر فرصًا لإنشاء مناطق صناعية مشتركة ذات معايير أوروبية، وربط سلاسل القيمة الإقليمية بأسواق الاتحاد الأوروبي. في المقابل، تبرز أهمية دعم الكفاءات والابتكار الرقمي من خلال برامج تعليم مشترك، ومسرّعات أعمال تقنية، ومراكز بحوث مشتركة في الذكاء الاصطناعي والتقنيات الزراعية والمائية. كذلك، يواجه الجانبان تحديات بيئية وغذائية تستدعي بناء منصات مشتركة للأمن الغذائي والمائي.
لتنفيذ هذا النموذج، يُقترح إنشاء مجلس استراتيجي مشترك يعقد دوريًا، وتشكيل فرق عمل فنية مختصة بالطاقة، والتجارة، والرقمنة، والتوظيف، تحت مظلة الاتحاد من أجل المتوسط بعد توسيع صلاحياته لتشمل الأدوار التمويلية والتنفيذية.
وفي ظل عالم يتجه نحو التعددية القطبية، يمكن لهذا التعاون أن يشكل ركيزة لحماية المصالح الاقتصادية لكلا الطرفين من ضغوط التنافس بين القوى الكبرى. فالشراكة المقترحة تعزز من قدرة الجانبين على التأثير في ملفات حوكمة التجارة، والاقتصاد الرقمي، وإصلاح النظام المالي العالمي، انطلاقًا من رؤية قائمة على التوازن والتكافؤ لا التبعية.
إن هذا النموذج من التعاون لا يعكس ردة فعل ظرفية، بل يعبر عن رؤية استراتيجية طويلة الأمد تعيد رسم خريطة الشراكات الإقليمية وفق منطق التوازن والاحترام المتبادل. المنطقة لم تعد مجرد ساحة للصراعات بل أصبحت قادرة – إذا ما اتحدت – على التفاوض من موقع الندية والقدرة. لقد آن الأوان أن يرى الاتحاد الأوروبي في هذه المنطقة شريكًا ضروريًا لا مجرد جار.