هيفاء غيث
لم يعد النسيج الاجتماعي العربي كسابق عهده، فقد تراجع شعور "النحن” أمام طغيان "الأنا”، وأصبحت العلاقات الإنسانية هشة، تتأرجح بين سباق الحياة وضجيج السوشيال ميديا.
إن الفردية اليوم ليست مجرد سلوك، بل موجة عاتية تهدد قيم التكافل، وتغرس بذور العزلة في قلوب الأفراد، حتى صارت الحرية الشخصية تفهم أحيانا على أنها تمحور حول الذات وانفصال عن المجتمع.
لقد ساهمت التغيرات الاقتصادية وضغوط المعيشة في انشغال الإنسان بنفسه وسعيه للبقاء، بينما دفعت وسائل التواصل الاجتماعي الناس إلى مقارنة مستمرة مع الآخرين، مما عزز فكرة السعي لتحقيق الذات ولو على حساب العلاقات الإنسانية.
تفكك العائلة الممتدة وتراجع دورها واقتصار مفهومها الجديد على أفراد الأسرة الصغيرة، فتح الباب أمام الشعور بالاستقلالية المفرطة، بينما تسللت القيم الغربية القائمة على الحرية الفردية المطلقة إلى ثقافتنا، من دون أن نفلتر ما يتوافق مع خصوصيتنا المجتمعيةوعاداتنا وقيمنا.
كما برز في السنوات الأخيرة، دور مدربي الحياة والتنمية البشرية، الذين يقدم بعضهم نصائح مغلفة بشعارات براقة عن "حب الذات” و”عيش حياتك لنفسك أولاً”، والتي تُفهم غالباً بمعزل عن أي التزام تجاه الأسرة أو المجتمع.
فبدلاً من أن يزرعوا قيماً تقوم على التوازن بين الذات والآخر، أصبح البعض منهم يروّج لفكرة أن السعادة تكمن في التركيز المفرط على "الأنا” وتغذية حب الذات إلى حد الانعزال، هذا الخطاب التجاري الموجه، الذي يبيع "وصفات نجاح” سريعة، يرسخ مفاهيم الفردية ويُضعف الروابط الاجتماعية الطبيعية.
تتضاعف موجة الفردية بفعل عوامل متعددة تتشابك في حياتنا اليومية، فالتكنولوجيا رغم ما تمنحه من وسائل اتصال، جعلت التواصل الافتراضي بديلاً بارداً عن اللقاءات الإنسانية الحقيقية، مما زاد الشعور بالعزلة.
كما ساهم ضعف الخطاب الثقافي والديني في تراجع القيم المشتركة مثل التكافل والتراحم وإغاثة الملهوف، التي لطالما شكلت أساس المجتمعات العربية، إلى جانب ذلك، أصبح النجاح يقاس بالمظاهر المادية، كالمال والمناصب والسيارات الفارهة، مما عزز سباق الأنانية الفردية وأضعف روح التعاون والعمل الجماعي.
وهنا نتساءل كيف نقاوم هذه الفردية التي غزت عقولنا وقلوبنا؟
لمواجهة هذا المد، علينا إعادة إحياء ثقافة التعاون عبر المبادرات التطوعية والمشاريع الشبابية، علينا تعزيز دور الأسرة والمدرسة في تعليم قيم المشاركة والعمل الجماعي.
كما يجب أن يتبنى الإعلام خطاباً يبرز نماذج العطاء والنجاح المشترك، اضافة الى توجيه خطاب التنمية البشرية ليكون أكثر إنسانية واتزاناً بحيث يعزز مفهوم "التوازن” بين الذات والآخرين بدلاً من التمحور حول الأنا.
الفردية ليست حرية مطلقة، بل قد تتحول إلى قيد يجعل الإنسان أسيراً لعالمه الصغير، وحدها روح "النحن” قادرة على إعادة دفء الحياة، لأن المجتمعات العربية كانت، وستبقى، قوية بتكافلها وترابطها.
هيفاء غيث