سلاح الجوع بين الأخلاق والسياسة

نبض البلد -
سلاح الجوع بين الأخلاق والسياسة

د. أيوب أبودية

لطالما استخدم الجوع والتجويع عبر التاريخ كوسيلة لإخضاع الشعوب وكسر إرادتها، لكن القرن العشرين شهد تصعيدًا غير مسبوق في استخدام التجويع كسلاح سياسي وعسكري منظم، تجاوز حدود الحصار العسكري إلى سياسة ممنهجة تستهدف المدنيين، تقطع سبل عيشهم وتمنع عنهم الغذاء والدواء والماء، لتصبح الأمعاء الخاوية أداة قتل بطيء وصامت.

شهد القرن العشرون عدداً من أبرز الأمثلة على "حروب التجويع"، بدءاً من الحرب العالمية الأولى حيث فرض الحصار البحري البريطاني على ألمانيا (1914–1919) مما تسبب في موت مئات الآلاف بسبب الجوع وسوء التغذية. لم يكن الهدف فقط منع العدو من الحصول على السلاح، بل أيضًا إرهاق السكان المدنيين وكسر معنوياتهم.

وفي الحرب العالمية الثانية، تكررت السياسة نفسها، لكن بشكل أشرس. استخدمت ألمانيا النازية التجويع ضد شعوب أوروبا الشرقية وخاصة في حصار لينينغراد الذي استمر أكثر من 872 يوماً (1941–1944) وتسبب في موت ما يقرب من مليون شخص بسبب الجوع والأمراض. كما استخدم الحلفاء الحصار الاقتصادي ضد اليابان لإضعافها داخلياً.

لاحقًا، في الحرب الأهلية بنيجيريا (1967–1970)، استخدم النظام النيجيري التجويع ضد إقليم بيافرا المنشق، ما أدى إلى مقتل أكثر من مليون طفل ومسن، وولّد صوراً مروعة لا تزال محفورة في ذاكرة الإعلام العالمي. كذلك، فرضت إثيوبيا التجويع على بعض الأقاليم المعارضة خلال الثمانينات، وتُرك مئات الآلاف يواجهون الموت في صمت تام، وسط عجز دولي وإنساني مؤلم.

في تسعينيات القرن الماضي، خضع العراق لحصار اقتصادي شديد فرضته الأمم المتحدة بقيادة الولايات المتحدة عقب غزو الكويت. تسبب الحصار، الممتد من 1990 حتى 2003، في انهيار النظام الصحي والغذائي في البلاد، وأدى إلى وفاة أكثر من نصف مليون طفل، وفقًا لتقارير منظمات إنسانية، ما أثار نقاشاً واسعًا حول أخلاقية استخدام العقوبات كأداة سياسية.

في العقد الأخير، أصبح التجويع من جديد سلاحًا مركزياً في الحروب الأهلية. ففي اليمن، أدى الحصار الجوي والبحري المفروض من التحالف العربي إلى أزمة إنسانية طاحنة شملت ملايين المدنيين، خاصة الأطفال. وفي سوريا، استخدمت قوات النظام البائد سياسة "الجوع أو الركوع" في مناطق مثل الغوطة وداريا، حيث مُنع دخول الغذاء والدواء لعدة سنوات.

تُعد غزة اليوم المثال الأوضح والأكثر توثيقًا على تجدد سياسات التجويع كسلاح استعماري. منذ عام 2007، فُرض حصار خانق على القطاع من قبل إسرائيل، اشتد بعد الحروب المتتالية. لكن بعد السابع من أكتوبر 2023، بلغ التجويع مستوى غير مسبوق، إذ أُغلقت كل المعابر، ومنعت دخول الطعام والماء والدواء، بل وجرى قصف المخابز والمستشفيات وآبار المياه.

ووفق تقارير الأمم المتحدة، فإن سكان غزة يواجهون خطر "المجاعة الجماعية" حيث يُحرم أكثر من مليون إنسان من الغذاء الكافي، ويضطر الأطفال لأكل الأعشاب وأوراق الأشجار. وذهب محللون إلى اعتبار ذلك نموذجًا كلاسيكيًا لحرب تجويع ممنهجة لاأخلاقية غير مسبوقة الا في السجون النازية، ترقى إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية، كما نصت اتفاقية جنيف الرابعة.

ورغم هذا الواقع الكارثي، لم يُمنح السكان أي ممرات آمنة للخروج أو تلقي المساعدات، بل على العكس، جرى استهداف فرق الإغاثة والمساعدات في كثير من الأحيان، ما يكرّس سياسة "الموت البطيء" لسكان محاصرين داخل بقعة جغرافية هي من بين الأكثر اكتظاظًا في العالم.

 فالتجويع في غزة وصمة أخلاقية في جبين الإنسانية، في غياب آلية دولية ملزمة تمنع استهداف المدنيين بحرمانهم من الغذاء والدواء. واليوم، تمثل غزة آخر الحلقات المأساوية في هذه السلسلة، لكنها ليست مجرد قضية فلسطينية، بل قضية أخلاقية وإنسانية عالمية تمتحن ضمير العالم: فهل سيبقى العالم صامتًا أمام استخدام الجوع أداة قتل؟ أم يعيد صياغة قواعد الحرب ليضع حرمة الخبز والماء فوق أي اعتبار عسكري أو سياسي؟

إن مقاومة التجويع لا تبدأ فقط بإرسال المساعدات، بل في كسر صمت العالم أمام أخطر أسلحة العصر: سلاح الجوع.