نبض البلد - الدكتورة دانا الشلول
في تصريح هزّ أركان المشهد الأكاديمي الأردني، فجّر وزير التعليم العالي والبحث العلمي، الدكتور عزمي محافظة، قنبلةً من العيار الثقيل، كاشفاً بها عن واقع مرير يضرب بعمق سمعة جامعاتنا وتصنيفاتها الدولية، حيث لم يتردد المحافظة بتوجيهِ اتهاماتٍ صريحةٍ بتزوير الأبحاث وسرقتها، بل ذهب أبعد من ذلك ليشير إلى دفع بعض الجامعات أموالاً لتحسين مراكزها في مؤشر النزاهة البحثية، هذه ليست مجرد كلماتٍ عابرة؛ وليست مجرد صرخة مدوّية تكشف المستور، وتُلقي بظلالٍ قاتمة على مستقبل التعليم العالي في الأردن فحسب؛ حيث أنَّ ما أدلى به ليس إلا رأس جبل الجليد لممارسات غير أخلاقيةٍ تستنزف البحث العلمي وتقوّض المصداقية الأكاديمية؛ فالتزوير والسرقة العلمية لا يهددان التصنيف العالمي فحسب، بل يضربان في الصميم جهود الباحثين المخلصين، ويُفقدان شهاداتنا قيمتها الحقيقية، والأخطر هو الحديث عن "دفع الأموال" لتحسين التصنيفات، ما يُعيد تعريف النزاهة والشفافية في منظومة التقييم برمتها.
تساؤلات حول التوقيت والمسؤولية: لماذا الآن؟
ويأتي هنا السؤال الذي يفرض نفسه بقوة، ويتردد صداه في كل الأوساط الأكاديمية والوطنية: إذا كان الوزير على علم بكل هذه التجاوزات الخطيرة، فلماذا لم تُتخذ إجراءات حاسمة وفورية لمحاسبة المتورطين مع لحظة بداية الكارثة أو اكتشافها؟ هل هذه التصريحات مجرد صرخة استنكارٍ في وجه فساد مستشرٍ، أم أنها محاولة للتهرب من المسؤولية وإلقاء اللوم على أيّ جهةٍ أو شخصٍ دون تقديم حلول جذرية؟ فلا يخفى على أحد أنَّ دور مجلس التعليم العالي الذي يرأسه وزير التعليم العالي يتجاوز رصد المخالفات؛ حيث يجب أن تضع آليات رقابية صارمة، وتُطبق قوانين رادعة، وتُوفر بيئة تدعم البحث العلمي الأصيل والنظيف، وتُحاسب المقصرين بلا هوادة.
فيما يزداد المشهد تعقيداً عند النظر إلى توقيت هذه التصريحات، الذي تزامن مع استضافة الأردن لمؤتمرات أكاديمية وتعليمية دولية مهمة، مثل مؤتمر التطوير التربوي والتعليمي والمؤتمر الدولي التاسع للنشر الإلكتروني، وهنا يرى البعض أنَّ إطلاق مثل هذه الاتهامات في هذا التوقيت قد يُلحق ضرراً بالغاً بسمعة التعليم العالي الأردني أمام الوفود الأكاديمية الدولية، ويُعيق جهود المملكة لتعزيز مكانتها كمركز للتميز الأكاديمي، وفي المقابل، قد يرى آخرون أنَّ التوقيت مقصود، ويهدف إلى وضع هذه القضايا الحساسة على طاولة النقاش في هذه المحافل، في محاولة للضغط من أجل تغيير جذري وإصلاح حقيقي، لكن هل هذا التصريح هو الخيار الأكثر حكمة الآن؟
طبيعة التصريحات: مسؤولية علنية أم حاجة للإجراء؟
فيما يبرز هنا تساؤل جوهري حول طبيعة هذه التصريحات ذاتها؛ هل يُفترض أن تُطلق مثل هذه الاتهامات العلنية من منصبٍ مسؤولٍ رفيع دون أن تُتبع بخطوات عمليّة فورية وخطط استراتيجيّةٍ مدروسة؟ فمن المفترض أن يكون الوزير مسؤولاً عن كل كلمة يتفوه بها، وأن تستند تصريحاته إلى معلومات موثقة، تُبنى عليها إجراءات رسمية حاسمة؛ إنّ مثل هذه التصريحات الخطيرة، وإن كانت تستهدف كشف الفساد، فإن التحدي يكمن في مدى سرعة وفاعلية التحرك الذي يليها؛ فغياب الإجراءات الفورية والمحاسبة قد يُفهم على أنه مجرد إثارة للجدل، أو استعراض للمشكلة بدلًا من حلها، مما قد يُعمّق حالة عدم الثقة.
ومن الجدير بالذكر أن هذه ليست الدورة الوزارية الأولى للمحافظة في حقيبة التعليم العالي، حيث أنَّ هذا التاريخ الطويل في المنصب يطرح سؤالاً حاسماً: إذا كان المحافظة يرى هذا الخلل وهذا التراجع في تصنيف الجامعات وفي النزاهة الأكاديمية، فلماذا لم يتخذ الإجراءات اللازمة للإصلاح خلال الفترات السابقة؟ ولماذا قرر الآن، وفي هذا التوقيت تحديداً، أن يفجر هذه القنبلة؟ كان أمامه متسع من الوقت لوضع الخطط وتنفيذ الإصلاحات ومحاسبة المتورطين؛ إنّ صمته السابق وتصريحاته المتأخرة تثير تساؤلات حول الأسباب الحقيقية وراء هذا الكشف المتأخر.
معايير متناقضة: هل تتضارب التصريحات مع القرارات؟
بينما يثير هذا الملف تساؤلات أخرى حول مدى اتساق رؤية الوزارة مع قراراتها، ففي الوقت الذي؛ يتحدث فيه الوزير عن أهمية سمعة التعليم العالي وضرورة الارتقاء بها، نجد قرارات سابقة تُثير علامات استفهام كبيرة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، وبعودتنا لآخر قرار مفصليٍّ صدر عن التعليم العالي واتخذه المحافظة بخصوص جودة التعليم وضبط عملية الحصول على الشهادات القادمة من الخارج؛ قرار التراجع عن تمديد فترة الإقامة لطلبة الدراسات العليا الأردنيين الدارسين في الخارج من (20) شهراً إلى (8) أشهر، فهذا التراجع يُنظر إليه على أنه يُضعف من ضبط عملية الحصول على الشهادات ويُسهل وصول الشهادات المزورة لغير مستحقيها من الراغبين في الحصول عليها في الأردن، الذين قد يعملون في جامعاتٍ رسميّة وخاصة تخرّج طلاباً لا يقل ضعفهم عن ضعف مدرّسيهم من حملة هذه الشهادات بل يزيدون، كما يبدو وكأنَّه يتناقض بشكلٍ صارخٍ مع السعي المعلن لتحسين التصنيف والسمعة للجامعات الأردنيّة، فالقرار السابق (20 شهراً) كان يهدف إلى ضمان انخراط الطلاب بشكل أعمق في البيئة الجامعية، وحضور المناقشات والمؤتمرات العلميّة، واكتساب المهارات والمعارف اللازمة لطالب الدراسات العليا، مما يُعزز جودة الشهادة ومصداقيتها، فكيف يمكن تعزيز مكانة الجامعات عالمياً، بما يشمل سمعة خريجيها في الخارج، إذا كانت هناك قرارات تُعرقل إتمام هؤلاء الطلبة لدراساتهم العليا بفاعليّةٍ وكفاءةٍ وجدارة، وربما تُقلل من جودة مخرجاتهم الأكاديمية؟ هذا التباين يثير الشكوك حول المعايير التي تحكم سياسات الوزارة، وهل هي فعلاً موحّدة وتصب في مصلحة النهوض بالتعليم، أم أنها تخضع لحسابات أخرى؟ هذا الوضع برمّته، بِدأً من التصريحات عن الفساد وصولاً إلى التراجعات في القرارات، قد يُضعف أيضاً من السياحة التعليمية في الأردن، والتي تُعد مصدر دخل قويٍّ للبلاد، يُفترض أنَّ جامعاتنا اعتمدت فيه على سمعتها القوية في جذب الطلاب الوافدين للدراسة من الدول العربية والأجنبيّة.
من يحاسب من؟ مسؤولية مشتركة تتجاوز الوزير
وفي ضوء ما سبق، تبرز هنا نقطة جوهرية، من هو المسؤول عن محاسبة المُتسببين والمقصّرين، ومن هي الجهات التي تتحمل جزءً من هذه المسؤولية؟ إنّ الإجابة هنا لا تقتصر على شخص واحد، فـهيئة النزاهة ومكافحة الفساد هي الجهة المخولة بالتحقيق في أي شبهات فساد أو تزوير، بما في ذلك ما يتعلق بالجامعات، كما أن مجلس التعليم العالي يقع على عاتقه دور رسم السياسات العامة والأولويّات والاستراتيجيّات الوطنيّة للتعليم العالي ويتولّى مسؤوليّة متابعة تنفيذها لضمان النزاهة في الجامعات، أما البرلمان (مجلس النواب)، فيمارس دوراً رقابيّاً على أداء الحكومة ووزرائها، ويمكنه طرح العديد من الأسئلة التي لا مفر من توضيحها جملةً وتفصيلاً حول التصريحات والإجراءات التي ستتبعها، فأين الدور المنوط بالبرلمان الأردني ممثّلاً بغرفتي النوّاب والأعيان، وتحديداً لجنة التعليم فيهما؟
وأخيراً، تقع المسؤولية الكبرى على عاتق الجامعات نفسها ورؤسائها في تطبيق سياسات النزاهة الأكاديمية ومحاسبة المتورطين، حيث إنَّ سمعة الأردن الأكاديمية على المحك، والمستقبل التعليمي لآلاف الطلبة والباحثين يعتمد على مدى جديّة وفاعلية الإجراءات التي ستتخذها الحكومة والجامعات لمعالجة هذه القضية الحساسة. فكيف يمكننا أن نوفّق بين استقلاليّة الجامعات والرقابة عليها؟ وأين دور الوزير كرئيس للجنة التعليم العالي في رسم السياسات المحكمة للتعليم العالي ووضع الخطوط العريضة المتعلّقة به ليضمن تحقيق أهدافه وأولويّاته ضمن الاستراتيجيّات الوطنيّة؟ ألا يخلق واقع الحال ضرورةً ملحّةً تستدعي عقد ورشة عمل معمّقةٍ أو خلوة استراتيجية تجمع رؤساء الجامعات السابقين والحاليين وأعضاء مجالس الأمناء لمناقشة هذا الموضوع معهم لطرح حلولٍ أكاديميّةٍ منطقيّة، واستراتيجيّة واقعيّةٍ وفعالة؟ هل يكون الحل في تحرّكٍ حكوميٍّ سريع وإجراءات حاسمة، أم في مطلب وطني وشعبيٍّ للإصلاح؟ هل ستكون هذه التصريحات هي شرارة الانطلاق نحو إصلاح حقيقي وجذري، أم أنها ستبقى مجرد كلماتٍ تزيد من مرارة الواقع وتُعمّق أزمة الثقة في نظامنا التعليمي؟