التعليم التنبؤي: كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكتشف الموهوبين مبكرًا؟

نبض البلد -
حسام الحوراني خبير الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي
في كل صف دراسي، هناك دائمًا طفل مختلف. لا يجيب الأسئلة بالطريقة المعتادة، لا يكرر ما يسمعه بل يعيد صياغته، يرسم حين يُطلب منه الكتابة، ويصمت حين يُتوقع منه التحدث. هذا الطفل، في كثير من الأحيان، يُساء فهمه. قد يُصنف على أنه مشتت أو غريب أو غير منضبط، بينما الحقيقة أنه موهوب، يملك شيئًا فريدًا، لكن النظام التقليدي للتعليم لا يراه. وبينما تضيع هذه الموهبة في زحام القوالب الجاهزة، ينمو طفل آخر داخل جدران الصمت، يخبو نوره يومًا بعد يوم، لأن أحدًا لم يمدّ يده ليكتشفه.
اليوم، في زمن الذكاء الاصطناعي، تتغير القصة. لا تعود الموهبة حكرًا على من يُظهرها في الامتحانات أو على من يرضي معايير النجاح التقليدية. بل تصبح شيئًا يمكن اكتشافه مبكرًا، بدقة، وبصيرة، وحيادية. التعليم التنبؤي، وهو أحد تطبيقات الذكاء الاصطناعي الأكثر إثارة، يفتح نافذة جديدة على المستقبل، حيث لا يُترك الطفل الموهوب للمصادفة، بل يُرصد من اللحظة الأولى، وتُصقل موهبته قبل أن تتآكل تحت ضغط التكرار واللامبالاة.
ما الذي يعنيه التعليم التنبؤي؟ إنه ببساطة أن نستخدم القوة التحليلية للذكاء الاصطناعي لفهم الأطفال بعمق، من خلال تحليل سلوكياتهم، وتفاعلهم، واستجابتهم للمواد التعليمية، وأنماط تعلمهم، وحتى تعبيرات وجوههم أثناء الدراسة. هذه الأنظمة الذكية يمكنها أن تلاحظ التفاصيل التي يغفلها المعلم، أن ترى الأنماط التي تتكرّر، أن تربط بين مؤشرات صغيرة تدلّ على قدرات استثنائية في مجالات كالإبداع، أو التفكير التحليلي، أو التعلّم السريع، أو الذكاء الاجتماعي.
التعليم التنبؤي لا يحكم، بل يتنبأ. لا يُصنّف الطفل إلى ذكي أو عادي، بل يرصد قدراته الفريدة، ويقترح مسارات تنموية تتناسب مع شخصيته. تخيل طفلًا يُظهر ميولًا غير مألوفة في التعامل مع الأشكال البصرية، أو قدرة لافتة على حل الألغاز، أو مهارة في التعبير عن المشاعر. خوارزميات الذكاء الاصطناعي يمكنها أن تلتقط هذه المؤشرات المبكرة، وتقترح خطة تعليمية تراعي هذه السمات، وتضع الطفل في بيئة تزدهر فيها موهبته بدل أن تُكبح.
وهنا تكمن عظمة الذكاء الاصطناعي: ليس في استبدال المعلم، بل في دعمه بما لم يكن ممكنًا من قبل. لأن الموهبة ليست دائمًا صاخبة، ولا تتحدث دائمًا عن نفسها. أحيانًا تكون في طفل هادئ لا يشارك كثيرًا، لكنه يرسم عوالم كاملة في خياله. أو في طفلة لا تتفوق في الرياضيات، لكنها تملك قدرة غير عادية على الربط بين الأفكار. المعلم قد لا يرى ذلك، لكن الخوارزمية التي تتابع سلوكها عبر مئات التفاعلات قد تكتشفه.
لكن، رغم هذا الأمل العظيم، لا بد من الحذر. الذكاء الاصطناعي أداة، ومثل أي أداة، يعتمد أثرها على من يستخدمها. إذا بُنيت الخوارزميات على بيانات منحازة، أو افتقرت إلى الفهم الثقافي والسياقي، فإنها قد تستبعد طلابًا لمجرد أن خلفيتهم مختلفة. وهنا تأتي أهمية أن تكون هذه الأنظمة مصممة بعناية، وبمشاركة تربويين، ونفسيين، ومجتمعات محلية، حتى لا يتحول الذكاء الاصطناعي من كاشف للموهبة، إلى حارس على أبوابها.
علينا أيضًا أن نعيد تعريف معنى "الموهبة". ليست فقط في الرياضيات والعلوم، بل في الفن، والموسيقى، والرياضة، والتواصل، والقيادة، والخيال. الذكاء الاصطناعي يمنحنا فرصة ذهبية لتوسيع مفهوم الموهبة، ليشمل طيفًا أوسع من القدرات، ويمنح أطفالنا فرصًا متكافئة في أن يُقدّروا كما هم، لا كما نُريدهم أن يكونوا.
المجتمعات التي تنجح في اكتشاف الموهبة مبكرًا، هي المجتمعات التي تصنع الفرق في المستقبل. هي التي تُطلق طاقات أبنائها، وتستثمر في ما هو فريد فيهم، وتؤمن بأن كل طفل يحمل بذرة عبقرية تنتظر فقط أن تجد التربة المناسبة. والذكاء الاصطناعي، حين يُوظف بأخلاق، وبحكمة، وبحب للإنسان، يمكن أن يكون تلك التربة، وذلك الضوء، وتلك اليد التي تمتد للطفل وتقول له: "أنت مميز… ونحن نراك".
في النهاية، لا يتعلق الأمر بالتقنية وحدها، بل بالرؤية التي نقود بها هذه التقنية. فبين أيدينا الآن مفاتيح لفتح أبواب لم تُفتح من قبل، لاحتضان جيل جديد من الموهوبين الذين قد يغيرون وجه هذه الأرض. كل ما نحتاجه هو أن نؤمن، وأن نبادر، وأن نضع الذكاء في خدمة القلب… قبل أن نضعه في خدمة الآلة.