نبض البلد - منصور البواريد
في زمن تتنازع فيه القوى على رسم خرائط الدم والحدود، يبرز الاجتماع الثلاثي بين وزراء خارجية الأردن وسوريا وتركيا في تركيا كعلامة فارقة، تُعيد المعنى إلى الجغرافيا وتُوازن الفوضى.
تركيا، باعتبارها قوة إقليمية ودولية ذات نفوذ ملموس في الساحة السورية، تلعب دورًا محوريًّا في استقرار المنطقة، سواء من خلال تحركاتها العسكرية أو السياسية، فدعم تركيا لوحدة سوريا ومواقفها الإقليمية يتقاطع مع الأردن في التصدي للتدخلات الأجنبية، خاصة الإسرائيلية.
لقد بذلت تركيا جهدًا ملموسًا في دعم الملف السوري، سواء عبر دعم المعارضة المسلحة أو من خلال مشاركتها في الجهود الدبلوماسية التي تسعى لتحقيق تسوية شاملة، وهي تدرك جيدًا أنَّ استقرار سوريا هو جزء من أمنها القومي، وكذلك أمن المنطقة ككل.
يُشكِّل التنسيق مع الأردن وسوريا محور ارتكاز ضروريًّا لمنع التدخلات الخارجية وحماية الحدود والأمن الإقليمي، في ظل واقع متداخل بين الأطماع الإقليمية والأزمات المركبة.
وفي هذا الإطار، يسعى الأردن أيضًا إلى تعزيز التنسيق مع تركيا بشكل مستمر، لأنَّ كلًا من البلدين يواجه تحديات مشتركة تتطلب حلولًا استراتيجية لا تقتصر على الجوانب الحدودية فقط، بل تشمل التعامل مع قوى تسعى لفرض وقائع جديدة في المنطقة واحتكار القرار الإقليمي. وتركيا، بدورها، تدرك أهمية الحفاظ على علاقات وثيقة مع الأردن، لتُسهم تلك التحالفات في تقديم حلول أكثر شمولية وفعالية ضمن معادلة الاستقرار.
تكثيف التنسيق الأردني التركي ليس مجرد خيار دبلوماسي، بل ضرورة استراتيجية لدعم الانتقال السياسي في سوريا، والتصدي لمحاولات تقويض الاستقرار، خصوصًا من قبل إسرائيل والتنظيمات المتطرفة، بما يضمن استعادة الدولة السورية لعافيتها، ويُخفف من الضغوط الأمنية واللاجئين على الأردن وتركيا. فالصراع في سوريا لم يعد محصورًا داخل حدودها، بل تحول إلى اختبار إقليمي حول من يملك شرعية صياغة الحلول، لا مجرد مواقف.
وفي السنوات الأخيرة، لم يقف الأردن متفرجًا أمام تصدعات الإقليم، بل تحرك بوعي لتعزيز تحالفاته الاستراتيجية مع دول الجوار والقوى الدولية الفاعلة، مُدركًا أنَّ استقراره ليسَ ضرورة داخلية فحسب، بل ركيزة لتوازن أوسع، يعيد رسم مفهوم الدولة المستقرة في بيئة متقلبة. فالتحول في المرحلة المقبلة لا يكون بتغيير النهج، بل بتطوير أدواته: من خلال الحوكمة الاقتصادية العقلانية التي تستبق الأزمات قبل وقوعها، وتعتمد على التوازن لا على المجازفة.
بهذهِ الرؤية، يمكن للأردن أن يتحول من نقطة توازن إلى نقطة تحول، لا يقف عند حدود احتواء الأزمات، بل يشارك بفاعلية في تشكيل معادلة الاستقرار المقبلة للمنطقة، مُدافعًا عن مصالحه بوصفه صاحب مبادرة لا مجرد مستقبل للتحديات.
وفي ظل هذا المشهد المُعقد، تبرز دبلوماسية جلالة الملك عبد الله الثاني -حفظه الله ورعاه- بوصفها أنموذجًا متوازنًا يجمع بين الحكمة والفاعلية، ويؤسس لتفاهمات بدلًا من الانجرار إلى اصطفافات. لم يكن النهج الملكي يومًا صدىً لقوى أخرى، بل صوتًا مستقلًا ووازنًا في لحظات ارتباك إقليمي، يتحدث بلغة الدولة لا بلغة الغضب.
فحين تتكالب الفوضى على الإقليم، يثبت الأردن أنه ليس مجرد بلد نجاة، بل فكرة استقرار تمتلك حق الوجود وجرأة التأثير، وإنَّ استلهام هذا النهج في السياسات المقبلة يُشكِّل بوصلة ذكية تضمن بقاء الأردن ليس فقط في قلب المشهد، بل في صُلب صناعته أيضًا.