طقس الضياع في مرآة لا تعكس

نبض البلد -
طقس الضياع في مرآة لا تعكس


لم نكن يومًا بحاجة لأكثر من يدٍ تربّت على كتف الحيرة، وصمتٍ نوزّعه بعدل على الطاولة، كأننا نقيم طقوسًا للسكينة. كنا حين نجتمع لا نُحصي الأرغفة، لأن القلوب كانت أوسع من البطون، ولأن العيون كانت تبقي للماء طعم اللقاء. لم يكن الفرح ينتظر الدعوة، كان يأتي لأن الأرواح تتجاور بما يكفي لتؤسس وطنًا بلا حدود.

ثم شيءٌ خفي، لا اسم له، ولا ملامح، تسرّب من شقوقنا ذات ضجر... كأن العتمة عرفت الطريق إلى مفاتيحنا، فصرنا نُطفئ أنفسنا بأيدينا. تحوّلنا من وجوهٍ تشبه الأوطان، إلى ظلال تبحث عن ملامحها في الآخرين. صار الجوع لا يلتهم الخبز فحسب، بل ينهش المعنى، والكرامة، والذاكرة أيضًا.

منذ متى صار البكاء جريمة؟ ومنذ متى أصبح من يبوح بوحدته يُدرج في قوائم الفشل؟ كيف صار العمر يُقاس بعدد الأصدقاء، لا بجودتهم؟ لماذا باتت العلاقات تجارةً في رداء الود؟ لقد تغيّرنا... لا لأن النضج طرق أبوابنا، بل لأننا صدّقنا أن التماسك وهمٌ يُشترى بالصمت.

صرنا نخشى الضوء لأنه يفضح هشاشتنا، ونرتعب من الظل لأنه يُذكّرنا بما افتقدناه من دفء. تاهت بوصلة أرواحنا، لا لأن الجهات غابت، بل لأننا فقدنا الإيمان بالوصول. بتنا نُخفي حقيقتنا عمّن يعرفنا، ونُظهرها لمن لا يرى فينا سوى سطوح مصقولة.

قالوا: "من لا يحمي ضعف الآخر، فقد خان قوته."
وأقول أنا: نحن لا نكفر بالبشر، بل بذلك الجزء فينا الذي ما زال يصدّقهم. نحن لا نتألّم من الهجر، بل من تأخّرنا في فهم الإشارات. لا نحزن على الرحيل، بل على الذين جعلونا نحمل أنفسنا ونمضي قبل أن نُشفى.

نحن لم نكن من سقط، بل من ظلّ يسند. لم نكن من تغيّر، بل من صبر على التبدّل حتى الذوبان. نحن الذين أبقوا كؤوسهم مملوءة بالماء، رغم الظمأ، فقط لأن العابرين كانوا عطشى.

فلعلّ الذي بيننا لم يمت، بل عاد إلى حالته الأولى: غامضًا، موجعًا، شفافًا حتى التلاشي.

ثم... ثمة مرآة على الحافة، لا تنكسر، ولا تعكس.
ربما لأنها رأت أكثر مما يُحتمل، فاختارت أن تصير صماء.
وفيها، حين أطلّ على وجهي، أرى وجهًا آخر كان يسكنني قبل أن أُخلق، ويغادرني كلما اقتربت.

قال لي أحدهم ذات صمت:
"ليس كل من ضاع كان يبحث عن طريق... بعضهم كان يتعمد التيه، لأن الطريق هو الذي خانه أولاً.”
ومنذها، بتّ أؤمن أن الخرائط ليست حبرًا على ورق، بل ندوبًا على أرواحنا.

وأقول شعرًا من وحيي

تعبتُ من انحناءات السؤال
ومن قُبَلٍ تشتهي الانفصال
تعبتُ من ظهر هذا الوفاء
ومن قلبه وهو دون احتمال
وما عدتُ أبحث عن صادقٍ
ولكن عن كاذبٍ باحتمال
فإن الصراحة في زمنٍ
تُفسَّر ضعفًا بلا اعتدال

بقلمي: د. عمّار محمد الرجوب