الذكاء الاصطناعي والإرشاد السياحي: حين يصبح الدليل السياحي خوارزمية ناطقة بالتاريخ حسام الحوراني خبير الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي

نبض البلد -
منذ فجر الحضارات، لعب الإرشاد السياحي دورًا محوريًا في تقريب المسافر من روح المكان، وفي تحويل الرحلة من مجرد تنقل جغرافي إلى تجربة إنسانية وثقافية غنية. كان الدليل السياحي – سواء أكان كتابًا، أو شخصًا، أو خريطة – حلقة الوصل بين الماضي والحاضر، وبين الزائر والمعلم. لكننا اليوم نشهد تحوّلًا جذريًا في هذا المجال، بفضل دخول الذكاء الاصطناعي إلى عالم السياحة، وتحديدًا إلى قلب الإرشاد السياحي، ليغيّر المفهوم التقليدي ويقدّم تجربة ذكية، تفاعلية، وشخصية لكل سائح.
لم يَعُد السائح بحاجة إلى مرشد يرافقه فعليًا ليشرح له تاريخ المعالم، أو يروي له الأساطير، أو يرشده إلى أفضل المسارات. فمع تطبيقات الذكاء الاصطناعي، يمكن لأي شخص أن يحمل في هاتفه مرشدًا رقميًا ناطقًا، يتحدث بلغته، ويفهم اهتماماته، ويقدّم له معلومات فورية ودقيقة، وربما أكثر شمولًا من بعض الأدلة البشرية.
تخيل أنك تتجوّل في مدينة البتراء مثلًا، وتفتح كاميرا هاتفك، فيبدأ التطبيق تلقائيًا بالتعرف على النقوش والواجهات، ثم يُخبرك – بصوتٍ طبيعي – عن تاريخ هذا المكان، وعن الطقوس النبطية، ويقترح عليك أفضل المسارات لتفادي الازدحام، بل وربما يربط لك الأحداث التاريخية بسياقات عالمية أخرى، لتغادر المكان وقد زادتك التجربة عمقًا لا مجرد صور.
هذا النموذج الجديد من الإرشاد السياحي يعتمد على تقنيات متعددة، أبرزها الواقع المعزز (AR)، والتعرف على الصور، والتفاعل الصوتي، وتحليل السلوك. يمكن للتطبيقات الذكية أن تُخصص المحتوى حسب عمر السائح، واهتماماته، ومستواه الثقافي، فتُقدَّم المعلومات بشكل مبسّط لطفل، أو بأسلوب أكاديمي لباحث، أو بروح قصصية لعاشق للدراما والأساطير.
وتبرز هنا أهمية الذكاء الاصطناعي في دمقرطة المعرفة السياحية، فلم تعد التجربة الحقيقية حكرًا على من يستطيع دفع تكلفة مرشد سياحي محترف، بل أصبحت متاحة للجميع، في أي وقت، وبأي لغة. هذه النقلة ليست مجرد تحسين لتجربة الزائر، بل هي أيضًا فرصة غير مسبوقة لتسويق التراث المحلي، وإحياء المواقع الأقل شهرة عبر أدوات تقنية تجذب الزوار وتبقيهم متصلين بالمكان.
في بعض الدول، بدأت الوزارات السياحية بالفعل في اعتماد أنظمة ذكاء اصطناعي ضمن مسارات الجولات التفاعلية، حيث يُزوَّد السائح بجهاز صغير أو تطبيق هاتف ذكي، يُرشده خطوة بخطوة في المتاحف، أو القلاع، أو الشوارع القديمة، ويقدّم له محتوى غنيًا يشمل صورًا تاريخية، ومقاطع صوتية تمثيلية، وحتى محاكاة ثلاثية الأبعاد للحظات تاريخية كبرى.
لكن الثورة لا تتوقف عند الإرشاد فقط، بل تمتد إلى تخطيط الرحلة كاملة باستخدام الذكاء الاصطناعي. هناك منصات تستخدم خوارزميات تعلم الآلة لفهم تفضيلات المستخدم، ثم تقترح له مسارات سفر مخصصة، تشمل الفنادق، والمطاعم، والفعاليات الثقافية، وحتى لحظات الاستراحة المناسبة، وفقًا لأنماط حركته وميزانيته ومزاجه العام. إنها السياحة الموجهة ذاتيًا، لكن مدفوعة بذكاء غير مرئي.
ومع ذلك، يطرح هذا التحوّل أسئلة جوهرية: هل سيحل الذكاء الاصطناعي محل المرشدين البشريين؟ وهل يفقد الإرشاد السياحي طابعه الإنساني والتفاعلي؟ الإجابة ليست نعم أو لا، بل إن أفضل التجارب هي تلك التي تدمج بين الذكاء الاصطناعي واللمسة البشرية. فالخوارزميات تُقدّم المعلومة، لكن الإنسان يقدّم القصة. الذكاء الاصطناعي يُرشدك إلى "ما هو"، لكن المرشد البشري يُشعرك بـ"لماذا هو مهم".
في السياق العربي، وبخاصة في دول غنية بالتراث مثل الأردن، ومصر، والمغرب، والسعودية، يُمثل الذكاء الاصطناعي فرصة استراتيجية لتطوير السياحة الذكية، وجذب الزوار من الجيل الرقمي، الذين يبحثون عن تجارب متقدمة وسلسة. يمكن توظيف الذكاء الاصطناعي في إعادة إحياء القصص الشعبية، والأساطير المحلية، وتقديمها للسائح بطريقة بصرية وصوتية جذابة، وربط المواقع الأثرية بسياق ثقافي أكبر وأكثر عمقًا.
كما يمكن لهذه الأدوات أن تُسهم في تدريب المرشدين السياحيين المحليين، عبر تقديم محتوى غني وتحليلات فورية لمستوى رضا الزائر، مما يُمكّنهم من تحسين الأداء وتقديم خدمة أكثر تخصيصًا.
الذكاء الاصطناعي لا يُقصي الإنسان من مشهد الإرشاد السياحي، بل يُمنحه أدوات جديدة ليكون أكثر تأثيرًا وشمولًا. فبينما تُساعد الخوارزميات في إدارة التفاصيل، يبقى الجوهر الإنساني – ذلك الرابط العاطفي مع المكان – عنصرًا لا يُمكن استنساخه بالكامل.إنها رحلة سياحية من نوع جديد، حيث لا تسير فقط بين الشوارع والمواقع، بل تسير بين طبقات من التاريخ تُروى لك بصوت رقمي، ذكي، ومتفاعل. وبينما تُضيء الخوارزميات الطريق، يبقى الشغف بالاكتشاف هو وقود الرحلة.