خليل النظامي

من سرق روحانية وسط البلد؟

نبض البلد -


سؤال لم ينفك عن مطاردتي وأنا أتجول بين أزقة وسط البلد القديمة، أتأمل تفاصيلها التي باتت باهتة، وأستحضر في ذهني فكرة المفكر الليبي الصادق النيهوم في كتابه "من سرق يوم الجمعة"، وكيف تحولت روحانية يوم الجمعة من لحظة تواصل روحي عميق إلى طقس روتيني فارغ، تحت هيمنة المؤسسات التي لم تستطيع الوصول الى معان وفلسفة الوجود والألوهية حينها؟.
واليوم، لا بل الآن، وأنا أجلس على شرفة هذا المقهى أراقب، أرى نفس السرقة قد وقعت هنا، في وسط البلد التي فقدت روحها كما فقدت الأيام قدسيتها.
وأستحضر وأتذكر عندما كنت قديما أتجول برفقة صديقي وحبيبي "أبا الحكم"، حيث كانت المقاهي القديمة تعج بالحياة، وكانت ملتقى المثقفين والكتّاب والشعراء، حيث كنت أجلس على تلك الطاولات الصغيرة في مقاهي الزقق الصغيرة، أستمع لأحاديث الأدب والفكر والصحافة، وأراقب بأم عيني كيف كانت هذه الشوارع تنبض بالحياة.
واليوم، صارت الأماكن مهجورة، واستبدلت مكان الفكر ببضائع رخيصة، وأضواء باهتة، وإعلانات مبتذلة، وكأن روح المكان قد سُرقت، وكل شيء أصبح فارغًا من المعنى.

يا ترى،، أين ذهب هؤلاء الكتّاب والنقاد والأدباء الذين كانوا يشعلون النقاشات ويثيرون الأسئلة؟ من سرق أرواحهم؟ لماذا اختفوا من المشهد؟ 
أسير وانا أرى جدران البيوت والمحال والعمارات العتيقة وأسمع صدى الماضي، لكنني لا أجد سوى الفراغ، فلقد تحولت وسط البلد من فضاء فكري وروحي إلى مجرد سوق يعرض الأفكار الفارغة والبضائع التافهة.
أذكر ما قاله النيهوم في كتابه: "السرقة ليست فقط سرقة يوم أو مكان، بل هي سرقة للروح، للمعنى، ومن يسرق اليوم يسرق الغد أيضًا"، وكلما نظرت حولي، أرى أن ما كانت يومًا مدينة نابضة بالفكر قد أصبحت مجرد مكان يئن تحت وطأة الضوضاء السطحية، والمظاهر الخادعة، وعشوائية الانفتاح والانشكاح والتقدمية.
والان وانا احتسي قهوتي وربما للمرة الأخيرة هنا، أجد نفسي عاجزًا عن فهم ما حدث، وكيف تحولت هذه المدينة من مركز للثقافة والفكر إلى لوحة صامتة؟ واتسائل من أطفأ النور الذي كان يضيء هذه الشوارع؟ ومن جعل الكتب تختفي من المقاهي؟ ومن استبدل كتب الفكر والفلسفة بكتب مزيفة ؟
ربما، كما قال النيهوم، السؤال هو أول أدوات المقاومة، فطالما بقي السؤال، يبقى الأمل في استعادة الروح، إلا أن هذا الصحفي المشاكس الذي لا يهدأ يتسائل : هل سيبقى السؤال كافيًا في وجه هذه السرقة المتواصلة؟


………..

إعلام في مهب الريح

في وقت يتحول العلم إلى مهزلة بيد الجهلة وأصحاب المصالح شهد الاردن في السنوات الأخيرة تزايدًا هائلا في أعداد العاملين في مجال الإعلام والصحافة دون أن يكون لدى الكثير منهم أدنى مستوى من الدراسة أو التأهيل الأكاديمي المتخصص.
إذ أصبح من الواضح أن المهنة التي تتطلب دراسة معمقة وتدريباً دقيقاً تحولت إلى مجال يقتحمه "كل من هب ودب"، مستغلين غياب الرقابة وضعف التشريعات التي تضبطها.
بالأمس، صدفة وقفت على تعليق لأحد أساتذة الجامعات "العلمانيين" ممن يدرسون الإعلام يقول أن الإعلام والصحافة مجرد "موهبة" أو "فن"، وهذا تبسيط مخل وخطير، وقد لاحظت أبضا بعض الأكاديميين غير المؤهلين الذين حصلوا على مناصبهم عن طريق المحسوبيات والواسطات يروجون لهذا التبسيط.
الحديث الخطير لهؤلاء الداعم لأولئك الذين يعملون في الإعلام دون دراسة أو تأهيل، لا يضر فقط بمصداقية المهنة، بل يساهم في دعمهم للاستمرار في تشويه الحقيقة وبث الأخبار المضللة والعبث بقواعد وأسس بناء المجتمعات وتشوية صورتها ، لأن الصحافة ليست مجرد كتابة عشوائية أو ظهور إعلامي جذاب؛ بل هي علم يعتمد على جمع المعلومات الدقيقة، وتحليلها بموضوعية، وتقديمها للجمهور بشكل يحقق المصلحة العامة.
بكل أسف؛ فإن القصور في التشريعات الناظمة للإعلام جعل من السهل على غير المتخصصين اقتحام هذه المهنة، الأمر الذي أصبحنا فيه نرى وجوهاً إعلامية لا تمتلك الحد الأدنى من المهارات والمعرفة المطلوبة. 
علاوة على أن غياب الرقابة والمساءلة أدى إلى فوضى إعلامية، وأصبح الإعلام منصات لترويج الآراء الشخصية وتحقيق المصالح الخاصة، بدلاً من أن يكون منبراً للحقائق وخدمة المجتمع.
وأضيف لكم: أن الإعلام مهنة تتطلب معرفة عميقة بأصول البحث والتحقيق والتحري والتقصي، وفهماً دقيقاً للقوانين والتشريعات، ووعياً بجوانب الأخلاقيات المهنية، ومن غير المقبول أن يتحول الإعلام إلى حقل للتجارب الفردية أو استعراض المواهب الذاتية دون أي ضوابط مهنية أو علمية. وإن إصلاح هذا الوضع يتطلب تدخلاً عاجلاً من الجهات المعنية لإعادة النظر في التشريعات الإعلامية، ووضع معايير صارمة لمن يحق له دخول هذا المجال. 
ويجب أيضا على الجامعات الخاصة والحكومية أن تكون صارمة في اختيار وتعيين الكوادر التدريسية وأن لا تكون المناصب الأكاديمية محصورة بأصحاب الواسطات أو المحسوبيات. 
وأنتهي بالتأكيد على أن الصحافة ليست موهبة، بل هي علم ومسؤولية وثقل لا يتحملها إلا من درسها وتعمق في أصولها وفلسفتها ونمطية عملها، وأي تهاون في ذلك سيكون له عواقب وخيمة على الدولة والمجتمع.


……..

ادعاء المعارضة والتعاون الخفي

في الوقت الذي باتت فيه منصات التواصل الاجتماعي الساحة العامة والوحيدة للتعبير والنقاش العام بين مختلف شرائح وفئات الجماهير، تبرز العديد من الشخصيات الإعلامية والنشطاء والمشاهير الذين يظهرون أنفسهم كمعارضين شرسين للسلطة السياسية والمنظمات الدولية، ويدّعون أنهم ضحايا للتهديدات المتنوعة، وأنهم محاصرون بسبب مواقفهم الجريئة والصريحة، إلا أن تحت السطح، تكمن حقيقة مختلفة تمامًا؛ فهؤلاء ليسوا سوى أدوات في يد الجهات التي يدعون معاداتها.
ما يثير الاستغراب يتمثل بالتناقض الذي يعيشونه، فتجدهم أمام الجمهور، يظهرون بمظهر الشجعان الذين يقاومون القمع ويدافعون عن حرية التعبير، وفي الواقع يتلقون دعمًا ماليًا ومعنويًا من نفس الجهات التي يدعون معارضتها.
وللأسف هذه الظاهرة تفاقمت وسط عالم افتراضي يعتمد على العناوين الجريئة والمحتوى السريع لجذب الانتباه، ما مكن هذه الشخصيات من استغلال الرأي العام ببراعة، وأدوات لتوجيهه بما يتماشى مع مصالح من يعملون معهم بالسر.
هذه الازدواجية لا تقتصر على الجانب الإعلامي والإتصالي فقط؛ بل تشمل التأثير على الخطاب العام، فهم يعملون على افتعال حالة من التشويش والتضليل، إذ يروجون لخطاب معارض ظاهريًا، لكنه مدروس وموجه بعناية لخدمة مصالح السلطة، عن طريق التحكم في طبيعة المعلومات التي يتم نشرها، واختيار الموضوعات التي يتم تسليط الضوء عليها بعناية فائقة، بحيث لا تضر فعليًا بالجهات الداعمة لهم.
ما أود قوله ؛ أن المواطن العادي هو الضحية، والذي يتم استغلاله وخداعه من قبل هذه الثلل التي يُفترض أنها تعمل لصالح الشعب، في حين أنها تخدم مصالحها الشخصية وتلك التي ترتبط بالسلطة وغيرها. 


،،،،،،،،
المنظمات الدولية تدحض أنفها في القطاعات كافة

باقتراب موعد ممارسة سياسية حزبية برلمانية، يتزايد حضور التدخلات الدولية في مجريات العملية السياسية والحزبية على شكل مراكز ومنظمات دولية، تحت شعارات براقة كدعم الديمقراطية وتمكين المرأة وتعزيز المشاركة الشبابية وغيرها. 
لكن يتوارى خلف هذه الشعارات اللامعة، مخاطر جدية وغير مرئية تحاول العبث ببنية الدولة وتماسك النسيج الاجتماعي الأردني.
في البداية، يجب أن ندرك أن ما يُقدّم تحت مسمى "الدعم المالي" هو في الواقع مدخل لتكريس التبعية السياسية، ومع مرور الوقت تجد السلطات السياسية نفسها، عاجزة عن اتخاذ قراراتها الاستراتيجية بحرية واستقلالية، إذ يصبح تمويل المنظمات الدولية مفتاحًا ذهبيا كمفاتيح "كوميدوس اوريليوس" لبعض القرارات الوطنية. 
علاوة على أن التبعية التي صنعها التمويل الأجنبي خفية، تجعل القرار مرهونًا بأجندات دولية لا تأخذ ولا بأي شكل من الأشكال بعين الاعتبار الخصوصية المحلية، الأمر الذي خصص ليمهّد عملية التحول التدريجي نحو ضعف السيادة للسلطات السياسية.
الأمر لا يتوقف عند حدود التبعية المالية والسياسية، بل يتعداها إلى التلاعب بالهوية الوطنية والثقافية، فتجد في كثير من المواضع والمناطق المنظمات الدولية تُدخل وتفرض نماذج سياسية لا تتناسب مع السياق الاجتماعي والثقافي الأردني، وهذا التلاعب في بنية الأردن يؤدي بالنهاية الى صناعة حالة من الاغتراب بين المواطن وهويته الوطنية، وبالتالي فقدان الثقة في الأحزاب الوطنية المستقلة.
ما هو أخطر من ذلك، أن هذه التدخلات للمنظمات الدولية تُفضي إلى ولادة نخب سياسية ربما أفراد أو مراكز بحثية او جمعيات ومراكز حقوقية مدعومة بشكل غير واضح من الخارج، بهدف العمل لصالح الممولين الدوليين وليس لصالح الأردن والأردنيين، وتجدها تبدو ظاهريًا كأنها تسعى للإصلاح، إلا أنها في الواقع تسهم في تعميق الفجوة بين السلطات السياسية والجماهير، الأمر الذي يجعل الأحزاب الوطنية التقليدية تبدو عاجزة أو حتى غير ملائمة.
وفي نهاية المطاف وكي لا أطيل عليكم، هذا التدخل لا يتوقف عند الانتخابات أو بعملية الممارسة السياسية فقط، بل يتجذر في عمق تركيبة وبنية الدولة، حيث تنشأ شبكات خفية من التأثير الأجنبي تعمل لصالح الجهات الممولة من وراء الكواليس، وهذه الشبكات تظل مؤثرة لعقود، الأمر الذي وبكل تأكيد يعيق أي محاولات حقيقية للاستقلال السياسي والإصلاح الاجتماعي والاقتصادي الداخلي.
#خليل_النظامي