الدكتور عبدالله سرور الزعبي

الأمن الأوروبي بين مطرقة أوكرانيا وسندان الشرق الأوسط

نبض البلد -

العلاقة الأوروبية مع الشرق الأوسط، سلسلة متواصلة من الصراع والتعاون المتبادل، بدأت مع الإسكندر المقدوني، وهو من حدد قلب العالم، ومؤسس الجسر الحضاري مع المشرق. تبع ذلك العهد الروماني، وكان الشرق الاوسط جزءًا منه، يرابط طرق التجارة بين أوروبا وآسيا وأفريقيا. ومع القرون الوسطى، برزت الحملات الصليبية، تلتها مرحلة التبادل التجاري والثقافي مع القوى الإسلامية، خاصة عبر الموانئ المتوسطية، ومن ثم الحقبة الاستعمارية.

في العصر الحديث، بعد الحرب العالمية الثانية، عادت العلاقات الاستراتيجية مع منطقة الشرق الأوسط (اهم مصدر للطاقة)، وتحوّل المنطقة إلى ساحة صراع نفوذ بين القوى الأوروبية والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، ولغاية اليوم تنظر أوروبا الى المنطقة بوصفها مصدرًا للطاقة، وطريقاً للتجارة، ومسرحًا للتحديات الأمنية، وشريكًا في قضايا التنمية والاستقرار الإقليمي والعالمي.


روسيا التي دخلت المعادلة الأوروبية، في عهد بطرس الأكبر، ناقلاً إياها من دولة شبه معزولة جغرافيًا وثقافيًا، إلى قوة عظمى تفرض نفسها لاعبًا أساسيًا في ميزان القوى الأوروبي، وبرزت في القرن التاسع عشر كحامية للشعوب السلافية، ودخلت في صراعات كبرى، لتصبح طرفًا حاسمًا في التوازن الأوروبي.


مع قيام الاتحاد السوفيتي، تحولت روسيا إلى قطب أيديولوجي عالمي ينافس الغرب رأسيًا في السياسة والاقتصاد والعسكرة، إلى أن انهار هذا البناء عام 1991، لتجد موسكو نفسها في موقع دفاعي أمام تمدد النفوذ الأوروبي والناتو شرقًا.


حديثاً، بوتين، استخدام أدوات القوة الصلبة والناعمة معاً، لاستعادة النفوذ التاريخي، فكانت حرب جورجيا 2008 وضم القرم 2014، وصولًا إلى الحرب الراهنة في أوكرانيا، التي أعادت أوروبا وروسيا إلى أجواء المواجهة الجيوسياسية، وتفرض روسيا نفسها مجددًا لاعبًا يصعب تجاوزه في صياغة الأمن الأوروبي والحدود السياسية.
 اما أوكرانيا، فهويتها الوطنية لها جذور تاريخية، لكن ظهورها كدولة بالمعنى السياسي، مر بعدة مراحل، استمرت حتى عام 1991، حيث أعلنت استقلالها لتبدأ مسارها كدولة قومية ذات سيادة.


خلال هذا الصيف، شهدت الساحة الدولية تغيرات متسارعة على أكثر من جبهة، أبرزها الاتفاق الاقتصادي بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، حيث التزامات أوروبا بشراء كميات ضخمة من الغاز المسال والنفط الامريكي، بقيمة تصل إلى 650 مليار، واستثمار حوالي 600 مليار دولار في أمريكا خلال ثلاث سنوات. هذا الاتفاق جاء في ظل انقطاع الغاز الروسي، نتيجة تدمير خطوط أنابيب الغاز Nord Stream منذ 2022.


هذه الصفقة عكست تبعية أوروبية تجاه الولايات المتحدة، مما يقلّص من قدرتها على اتخاذ قرارات مستقلة في المجالات السياسية والاقتصادية، ويظهر مدى خطورة إعادة ترتيب جيوسياسي لأوروبا من خلال تفاهمات أميركية روسية دون مشاركة أوروبية كافية. 


ان تصاعد الأزمات السياسية والعسكرية في شرق اوروبا، يقابله تصاعد المواجهة في الشرق الأوسط (غزة والضفة الغربية وسوريا ولبنان وغيرها). هذه الاحداث المترابطة، تشكّل عامل ضغط مباشر على قدرة اوروبا في إدارة ملفات الشرق الأوسط، التي تعكس أبعادًا أعمق في التنافس الجيوسياسي الدولي.


ان التحولات الأخيرة على الساحة الأوروبية، أدى الى تراجع دورها كوسيط محايد بين إسرائيل والفلسطينيين (تميل تلقائيًا نحو الموقف الأميركي)، وترابط قرارات واشنطن بين أوكرانيا والشرق الأوسط، وتسعى واشنطن للحفاظ على تفوقها عبر دعم إسرائيل (حيث السياسة الأميركية تستخدم ملفات عدة كورقة واحدة في المفاوضات الدولية (من خنادق الدونباس الى أزقة غزة، مرورًا بمضائق البحر الأحمر)، مما قد يفتح المجال لتدخلات روسية وصينية، ويسمح لهما بتوسيع نفوذهما (عبر دعم أطراف إقليمية فاعلة)، لكسر سياسة الاحتكار الأمريكي، ولتعقيد الصراع، وليبقى الحل النهائي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي مرهونًا بتحولات وتحالفات وتوازنات القوى العالمية.


في أوكرانيا، وبعد انطلاق الاحتجاجات الداخلية، زادت الضغوط بهدف تغيير القيادة السياسية، واستبدالها بأخرى مريحة أكثر، وبهدف الاستمرار بالحرب أو التفاوض بواقعية. في الوقت نفسه، تتقدم القوات الروسية نحو نهر دنيبرو، في مشهد ميداني لتثبيت مكاسب إقليمية قبل لقاء ترامب وبوتين في الاسكا يوم 15/8/2015، وقد يفضي إلى حلول تُحسم فيها مسائل حدودية أو نفوذ إقليمي، ويعيد هندسة الأمن الأوروبي من خارج البيت.


قادة أوروبا، في حراك مستمر (ثلاثة قمم يوم 13/8/2025)، للمحافظة على موقف موحد، ورسم مستقبل الاتحاد، فهل سينجحون في تعزيز استقلالية أوروبا السياسية والاقتصادية لتتمكن من لعب دور فعّال في الشرق الأوسط؟ وهل سينجحون في تطوير استراتيجية جيوسياسية توازن بين علاقاتهم ومصالحهم في الشرق الأوسط؟ وهل سينجحون في العمل مع شركاء إقليميين (الأردن حليف إقليمي مستمر) لتعزيز الحلول السياسية المستدامة بعيدًا عن تبعيات القوى الكبرى (لكيلا تقع أوروبا بين مطرقة الانكفاء الأمريكي وسندان التوسع الروسي)؟
يشير الربط بين المشهد الأوروبي والأميركي والحرب في أوكرانيا وغزة إلى تحوّل في مراكز الجاذبية الجيوسياسية. إذ إن الاتفاق التجاري والتزامات الطاقة، تمنح الولايات المتحدة مساحة أوسع لاستخدام السياسة الخارجية كأداة واحدة شاملة لإدارة ملفات أوكرانيا والشرق الأوسط في وقت واحد، مع تآكل القوة الأوروبية الناعمة.


والسؤال هنا، هل الاهتمام الاوروبي بالحفاظ على "الرعاية الأميركية يُقوّي من علاقاتها، أم يُقوِّضها؟  وهل الرغبة في ضمان الأمان الأميركي تُترجَم إلى ضعف في تأثير القرار الأوروبي في أوكرانيا والشرق الاوسط؟ وهل هذا الترابط يعني أن أي ليونة أو تشدد أميركي في ملف غزة سيتأثر بمدى حاجتها لتماسك المعسكر الأوروبي في مواجهة روسيا، وهل أوروبا جاهزة للتحدي المطروح اماها في صيف 2025، وهو متعدد الابعاد (قرار سياسي، واقتصادي، وضغط جيوسياسي، وهشاشة أوكرانية، وابعاد قانونية واجتماعية، مثل امن الوظائف والتنافسية)؟ وهل هي قادرة على اعلان حالة الطوارئ الصناعية، والمحافظة على سلاسل التوريد والقطاعات الأكثر تضررًا لامتصاص الصدمة الاقتصادية.


الأردن، بصفته حليف تقليدي لكل من أمريكا واوروبا، وهو في قلب العاصفة الجيوسياسية المتشابكة، ليس بعيداً عن هذه التطورات والتقاطعات، التي لها تداعيات عميقة على استقراره وأمنه الاقتصادي والسياسي.


إن احتمالات إعادة رسم موازين القوى في أوكرانيا والشرق الأوسط تُرجّح أن يصبح الأردن في موقع جيوسياسي حساس بين الأقطاب المتنافسة لتوسيع نفوذها في ظل تصاعد الحرب في غزة وتداعياتها الإنسانية والأمنية، مع تأثيرات قد تمتد لتصل التوازنات الاجتماعية الداخلية.


مع كل هذه الضغوط المركبة، هل سيتمكن الأردن من المحافظة على الدور الحيوي كـجسر دبلوماسي إقليمي لدعم الحلول السياسية المستدامة (في ظل تراجع الدور الأوروبي المتفهم والداعم للأردن)؟


إن جلالة الملك يعلم ما يجري من أحداث على الساحة الدولية، وأنها ستلقي بظلالها على الأردن، وهو المبادر في سرعة تبني سياسات مرنة وحكيمة تحمي المصالح الوطنية، وتحقق التوازن في بيئة دولية معقدة، ويعمل على تنويع الشراكات الدولية، وتطوير القدرات العسكرية والأمنية، وإدارة ملف العلاقة مع إسرائيل بحذر متوازن، والاستمرار في الضغط الدبلوماسي في ملف القدس وحقوق الفلسطينيين لتعزيز امن واستقرار الأردن.


ان جهود الملك، يجب ان يرافقها جهود من الادارة التنفيذية، للعمل على تنويع مصادر الطاقة، والمياه (فعلاً لا قولاً)، وبمرونة في السياسات الداخلية، من تبني سياسات اجتماعية واقتصادية تحافظ على التماسك الوطني في وجه الضغوط الخارجية، وتحسين الخدمات، وخلق فرص عمل، ودعم القطاعات الاقتصادية الحيوية، وتقديم الكفاءة (حيث الفاقدين للكفاءة يخلقون المشكلات، والمتعلمون يسعون لحلها، الا ان الكفاءة تمنع وقوعها) على الولاءات الشخصية (حيث في كثير من الأحيان تلعب الآراء الشخصية دوراً اكبر، وتصبح اقوى من الآراء المؤسسية، فان اعظم خطيئة هي تصديق الأشياء دون دليل)، وتعزيز الحوار الوطني والشراكة مع مختلف القوى السياسية والمجتمعية لتفادي استغلال الأزمات الخارجية في خلق انقسامات داخلية، وتعزيز دور التعليم وتطويره بالشكل الصحيح (حتى ولوكان مكلف، لان تكلفة تراجعه ستكون كارثية)، ولكيلا نجد انفسنا خارج اللعبة.
 ان هذه الإجراءات يجب ان تكون من الضرورات وليس خيارات، لتمكين الأردن من تجاوز هذه المرحلة الدقيقة بأقل خسائر ممكنة.


اننا نثق بكل ما يقوم به الملك، والاردنيون موحدون خلفه لحماية الوطن من اية تهديدات خارجية، وللمحافظة على مكانته كركيزة أمن واستقرار في منطقة سريعة التقلب.

* مركز عبر المتوسط للدراسات الاستراتيجية