نبض البلد -
حماده أبو نجمة
مدير المركز الأردني لحقوق العمل "بيت العمال"
لا نستطيع بأي حال أن ننكر بأن للتعليم أهداف أوسع من مجرد تلبية احتياجات سوق العمل، وأن من حق الإنسان أن يتعلم ما يريد، حتى لو كان التعليم للرفاه ولزيادة المعرفة والثقافة وليس فقط بهدف الحصول على فرصة عمل، فالتعليم له قيمة جوهرية ويجب أن يكون متاحا للجميع بغض النظر عن أهدافهم المهنية.
غير أن للتعليم وسياساته دور مهم في المواءمة مع احتياجات سوق العمل والحد من البطالة من خلال التركيز على التخصصات التي يحتاجها سوق العمل، بما يوفر لأصحاب العمل القوى العاملة اللازمة والمؤهلة، ويساعد الطلاب في الحصول على وظائف بعد التخرج وبأجور وحقوق وامتيازات أفضل.
من المؤكد أن ربط التعليم بسوق العمل ليس حلا سحريا لمشكلة البطالة أو مشاكل سوق العمل الأخرى، فهناك العديد من العوامل الأخرى التي تساهم في حدة البطالة، مثل العوامل الاقتصادية والسياسية، ومع ذلك، فإن التعليم يمكن أن يكون أداة قوية لمكافحة البطالة وتعزيز النمو الاقتصادي.
تعد فلسفة المواءمة بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل نهجا شاملا ينظر إلى التعليم كسلسلة مترابطة تبدأ من احتياجات سوق العمل وتنتهي بتوفير القوى العاملة الماهرة التي تلبي تلك الاحتياجات، وتمثل مبدأ جوهريا لضمان تحقيق التنمية المستدامة للمجتمعات، والارتقاء بجودة التعليم لحصول الطلاب على المعارف والمهارات اللازمة للنجاح في سوق العمل، بما يساهم في الحد من البطالة، وتعزيز التنمية الاقتصادية، وتحسين مستوى المعيشة والتقليل من الفقر، فالمواءمة ليست خيارا، بل ضرورة لضمان مستقبل أفضل للجميع.
وتستمد هذه الفلسفة أهميتها من واقع التغيرات المتسارعة في سوق العمل التي تتطلب تغيرات سريعة في الاقتصاد واستخدام التكنولوجيا ومهارات جديدة لدى القوى العاملة، كما تستمد أهميتها من واقع المسؤولية الاجتماعية للجامعات التي تتمثل في تكوين مجتمع منتج وقادر على التكيف مع التغيرات، وتلبية احتياجات أصحاب العمل بتوفير القوى العاملة الماهرة التي يحتاجونها، وخريجين قادرين على المساهمة في تنمية المجتمع.
لا يتعارض دور المؤسسات التعليمية في المواءمة بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل مع حرية اختيار التخصصات وتنوعها التي تعتبر من الأمور المهمة للمؤسسات التعليمية، بل يعززها من خلال توفير تعليم ذي جودة عالية يلبي احتياجات الطلاب والمجتمع، وعلى العكس من ذلك فإن تجاهل السياسات التعليمية لاحتياجات سوق العمل قد يؤدي إلى المساهمة بشكل رئيسي في تفاقم مشكلة بطالة الخريجين وفي زيادة الصعوبات التي يواجهونها في العثور على وظائف مناسبة، وكذلك في إعاقة التنمية الاقتصادية نتيجة نقص القوى العاملة الماهرة.
صحيح أن المواءمة بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل ليست مسؤولية حصرية للمؤسسات التعليمية، بل هي مسؤولية مشتركة تقع على عاتق جميع أصحاب المصلحة، بما في ذلك الحكومات، والمؤسسات التعليمية، وقطاع الأعمال، والطلاب.
إلا أن المؤسسات التعليمية يمكن أن تلعب دورا رئيسيا في تحقيق المواءمة من خلال تطوير المناهج الدراسية ومراجعتها بشكل دوري لضمان مواكبتها لآخر التطورات في سوق العمل، وتعزيز مهارات التواصل والتفكير النقدي التي تعد ضرورية للنجاح في أي وظيفة، وتوفير فرص التدريب العملي لاكتساب الخبرات، وبناء علاقات قوية مع أصحاب العمل لفهم احتياجاتهم بشكل أفضل، وتصميم برامج تعليمية تلبي هذه الاحتياجات، وتقديم برامج التوجيه والإرشاد المهني لمساعدة الطلاب على اختيار التخصصات المناسبة، وتطوير مهاراتهم المهنية.
فربط التعليم بسوق العمل عملية دائمة التطور بما يواكب التغير في احتياجات سوق العمل، لذلك من المهم أن يكون التعليم مرنا وقابلا للتكيف، وذلك من خلال التواصل المباشر والمستمر بين الجامعات ومختلف القطاعات الإقتصادية، كما تفعل بعض الجامعات الأردنية منذ سنوات حيث نجحت من خلال ذلك في أن تكون نسبة خريجيها الذين يحصلون على فرص عمل فورية داخل المملكة وخارجها مرتفعة.
ومن المهم التأكيد على أن المواءمة بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل لا تعني التخلي عن التخصصات التي قد يكون الكثير منها غير مطلوب في سوق العمل كالتخصصات الإنسانية أو الثقافية، فهذه التخصصات تلعب دورا هاما في تنمية المجتمع، ويجب على الجامعات الاستمرار فيها، كما أن من المهم أن تحافظ المؤسسات التعليمية على التوازن بين احتياجات سوق العمل ورغبات الطلاب وعلى حقهم في التوجه نحو التخصصات التي يرغبونها دون قيود، وبما يتيح لهم فرصة متابعة اهتماماتهم وتطوير مهاراتهم الشخصية، على اعتبار أن حرية اختيار التخصص حق خالص للطالب يجب احترامه.
فالمواءمة لا تعني إجبار الطلاب على دراسة مجالات لا يهتمون بها، فهناك العديد من الطرق لربط التعليم بسوق العمل دون التضحية بحرية الطلاب في اختيار تخصصاتهم، وبشكل خاص من خلال تقديم المشورة المهنية، ضمن برامج الإرشاد والتوجيه المهني، بمساعدة الطلاب على فهم احتياجات سوق العمل وكيفية اختيار تخصص يتناسب مع مهاراتهم واهتماماتهم، كما أنه يمكن للدورات التدريبية على المهارات تزويد الطلاب بالمهارات التي يحتاجونها للحصول على وظائف في مجالات محددة.
وفي الدول الصناعية بشكل خاص يتمتع نظام التعليم بسمعة طيبة في ربط التعليم باحتياجات سوق العمل، حيث يتضمن مزيجا من التعليم الأكاديمي والتدريب العملي، مما يساعد الطلاب على اكتساب المهارات والخبرة التي يحتاجونها للحصول على وظائف، وهو أمر أدى إلى أن تتمتع العديد منها بمعدل بطالة منخفض نسبيا وقوة عاملة ماهرة وباقتصاد قوي وتنافسي.