نبض البلد -
نبض البلد -سليم النجار
توطئة
ولد الأسير عبد محمود عبيد في بلدة عرابة- قضاء جنين في ٣/ ١٠/ ١٩٧٨، التحق في مدارس القرية وحصل على شهادة الثانوية العامة في الفرع العلمي مما أهله للالتحاق في جامعة بيرزيت لدراسة البكالوريوس في الفيزياء.
اعتقلته قوات الاحتلال الصهيوني بتاريخ ٢٧/ ٦/ ٢٠٠١ وأصدرت المحكمة الصهيونية بحقه حكماً بالسجن الفعلي ٢٧ عاماً.
شارك في عِدِّة إضربات جماعيَّة وتعرَّض للعديد من الإجراءات القمعيَّة وتم عزله انفراديَّاً عِدِّة مرات.
في المعتقل أكمل دراسته الجامعية وحصل على شهادة البكالوريوس في التاريخ من جامعة الأقصى بغزة وشهادة البكالوريوس في الخدمة الاجتماعية من كلية العلوم التطبيقيَّة.
تَتَطلَّب الكتابة الإبداعيَّة وعيَّاً بالفضاء الذي يَتحركُ فيه المؤلِف، وقد يكون التعثُّرُ في إدراك هذا الموقف مَقتَلاً لروحيَّة المنجز الأدبيِّ بأكمَله، وإذا كانت الروايةُ هي فنُّ التفصيلِ والحشدُ الملحميُّ للشخصياتِ التي يؤطِّرُها الحزامُ السرديُّ؛ فإنَّ القصَّةَ تمتازُ بِلُغةٍ مكثفةٍ وجملةٍ مكتنزة، كما فعل الأسير الروائي عبد محمود: (الآن وفي هذه اللحظات شريط حياته يُعرضُ أمامَ ناظريه، يبدو أنَّ ذلك إيذاناً بانتقاله إلى حياةٍ أخرى مختلفةٍ تمامَ الاختلافِ عن تلك الحياةِ التي عاشها من قبل ص١٨).
لذا فإنَّ ما يَتِمُ التعويل عليه ليس الاسترسال ولا الإطناب في بناء القصَّة: (-يبدو أنَّ ذلكَ الضابطِ اللعين كان يعني ما يقول، تبَّاً له وتبَّاً للحياة إذا كُنتُ سأعيشها في هذا المكان ص٥٥). بل هناك الرشاقة والحركة والومضة في العرض: (تواصل ضحكها يبدو أنَّ فيكم شيئاً من جنون لم أكتشفه بعد، ولذلك لن أجبيك... ص١٧١).
رواية "متاهة الحرية" تحاكي الواقع المنفتح على التحولات المتتالية، إذن فإنَّ التمكُّن من ضمِ كاملِ الحكايةِ داخلَ بؤرةِ الحدثِ وحركةِ الشخصياتِ ركنٌ أساسيٌّ في الاشتغالات الروائيَّة، إذ لا يتحمَّلُ هذا النوعُ الأدبيُّ الحشوَ في أجوائه، لأنَّه فنُّ اللحظةِ الحاسمة واللقطةِ السريعة، والغرض الواضح يتمُ التعبير عنه من خلال الحدث والموقف والانفعال: (إنَّنا وأوروبا كنَّا كفرسي رهانٍ، ومن ثم- وفي لحظةٍ تاريخيَّةٍ معينةٍ- تجاوزتنا أوروبا، ونعتقد خاطئين أيضاً أنَّنَا نستطيعُ اللحاقَ بها، لا بل والتفوُّقُ عليها، معتمدين في اعتقادنا هذا على التاريخ ص٧٧).
طبعاً الإيجاز في التعبيرِ من العلاماتِ الفارقةِ في بُنيَّة الرواية، فاللُّغة تعتمدُ أكثر على الإيحاء بدلاً من التصريح، وهذا ما يَزيدُ من زخمِ تيارِ السَّرد: (التاريخ يعود من جديدٍ ليتحكَّم بحاضرنا ومستقبلنا ص١٢٥).
وفي الواقع نجح الأسير الروائي الفلسطيني في حياكة محتوياتِ الروايةِ بناءً على رصدِ لقطاتٍ محدَّدةٍ في معمعانِ المعتقل الإسرائيلي، إذ لا تنفصلُ مواقفَ شخصيَّاتها عن محددات الأزمنة والمكان: (الوقت في هذا المكانِ المُوحِش لا يمر، لا صديقٌ يحادِثُه ولا كتابٌ يقرأه ولا حتى مصحفاً يتقرب فيه إلى الله، هو وزنزانته لا ينازعه فيها أحد ولا ينازعها فيه أحد ص٨١).
يستمدُّ نصُ روايةِ "متاهة الحريَّة" طاقتهَ التواصليَّة من عتبةِ العنوان، وهو يُوحي بمداليلٍ متعددة، ما يعني أنَّ لعبةَ التوقعات تبدأ عندما تشدُّ المفردة الإشهاريَّة المتلقي نحو عوالم النص، وما يدعمُ خصوصيَّة خطابه، وذلك يتمُ من خلالِ الإحالة إلى الأعمال الأدبيَّة الأخرى، الأمر الذي ينطبقُ على عنوانِ روايةِ عبد محمود. إنَّ مفردة "متاهة الحريَّة" تُذكِّر المُتلقِّي بروايةِ "دفتر العائلة" للكاتب الفرنسي باتريك موديانو، عِلماً بأنَّ العلاقةَ بين الأجزاءِ المُركِّبَة تتباينُ في مفردتين من حيثُ الصياغة النحويَّة. أيَّاً ما يكن في رواية عبد محمود غيرُ مقتبسٍ من العناوينِ الفرعيَّة المبثوثة في المحتوى. فهل يعني ذلك غياب التواصل بين العتبة الخارجية ومتعلَّقاتها من عنوان الرواية؟ هذه المناورة تهدفُ إلى ملاحقة ظلالِ العنوانِ الخارجي على تشكيلةِ القِصص التي تحتويها الرواية بأكملها، كأنًّ الكاتب قد أراد الإشارة إلى أنَّ مضامين النص ما هي إلَّا امتدادٌ لإرساليَّاتٍ مُفردةِ العنوان.
في أغلب حكايات "متاهة الحريَّة" كان المعتقل الإسرائيلي ظلَّاَّ متوارياً خلف الستارة، بينما تمعن الشمس في الغياب على الزمن الحاضر؛ تجمَّعت بعض هذه الظلالِ الكئيبة في الرواية وحكاياتها، وكان هناك من يرسب في قراءة التاريخ الذي كان المُعلِّم الأوَّل للحكايات، لكن كان الراوي- الكاتب- له وجهة نظرٍ مغايرة، كان يبدو أنَّه الوحيد الذي رأى التاريخ وما يحدث فيه من صراعاتٍ دمويَّة، له علاقة بالأخلاق أو الأيديولوجيا التي عرفها العالم العربي، بل هناك أيديولوجيا غربيَّة استعمارية ترى من التاريخ ما يخدم مصلحتها لذا كان عنوان الرواية "متاهة الحريَّة" جواباً على سؤال: هل الديمقراطية الغربيَّة ليست خياراً إنسانياً؟
عبد محمود في روايته كشف عن لعبة الرسومِ المتتالية لفكرة الديمقراطية الغربية التي صوَّرها (بالجثَّة الأنيقة)، لكنَّها تعيش في المخيال العربي كانشغالٍ وهميٍ حقيقي، هم المضُطهدون الذين يدافعون عن حريَّةِ وطنهم الأقدر على تعرية هذا الزيف الفكري. في نهاية الرواية وبهدوء تصيرُ الأجزاء الأربع وحدة واحدة لفكرة الروائي: أنَّ الحريَّة متاهة إذا ما كانت تمر في طريقٍ ضيِّقٍ لا يُؤدِّي إلَّا إلى امتهان كرامةِ الإنسان، وسرقة أرضه وجعلها بازاراً للتاريخ الذي عادة ما يكتبه الغُزاة.