التعليم بين الشعارات والسياسات...لماذا ندفع ثمن التراجع؟
مركز حزب عزم للدراسات الاستراتيجية
لم يعد الحديث عن تراجع التعليم العالي في الأردن ترفًا فكريًا، بل أصبح اعترافًا رسميًا بواقع مؤلم يلمسه الجميع، من طالب فقد شغفه بالعلم ويبحث عن الشهادة، إلى أستاذ أنهكته البيروقراطية وأصابته خيبة الأمل. هذا التراجع لم يأتِ صدفة، بل هو نتاج سياسات وإدارات وأنماط إنفاق جعلت من الإصلاح شعارًا متكررًا بلا مضمون حقيقي.
خلال عقد من الزمن، أطلقت الدولة استراتيجيات عديدة لإصلاح التعليم العالي، من استراتيجية 2014، إلى الاستراتيجية الوطنية لتنمية الموارد البشرية (2016–2025)، ثم الخطة الاستراتيجية (2022–2024)، وصولًا إلى الخطة الجديدة (2025–2027). لكنّ النتيجة واحدة، مزيد من الإنفاق، ومخرجات أضعف، وغياب للمساءلة. فالجامعات ما تزال أسيرة التلقين لا التفكير، والتعليم تحوّل إلى إجراءات شكلية، فيما تتسع الفجوة بين الجامعات وسوق العمل، وتتراجع النزاهة الأكاديمية إلى مستويات مقلقة.
المفارقة المؤلمة أن الإنفاق يتزايد، والمخرجات تتدهور. تُهدر الموارد على المؤتمرات والشعارات بدل تطوير المناهج والمختبرات. وتتكدس الوثائق على الرفوف بينما يزداد الواقع هشاشة. في أحدث تقارير وزارة التعليم العالي، تبيّن أن بعض الجامعات أنفقت مئات آلاف الدولارات سنويًا على تلميع الصورة وشراء خدمات التصنيف الأكاديمي من خدمات استشارية وبرمجيات ودعايات، في حين تئن ميزانياتها تحت وطأة الديون. بعض الجامعات خصصت أكثر من نصف مليون دولار سنويًا لتحسين ترتيبها العالمي دون أن يتحسن محتواها العلمي، بل لجأت أخرى إلى تقديم بيانات غير حقيقية عن اعداد الطلبة وأعضاء الهيئة التدريسية، واعداد بحوث علمية مضخّمة وغير من المعلومات غير الدقيقة لمؤسسات التصنيف الدولية، في محاولة لصناعة مجد وهمي.
من المفترض ان تكون الجامعات قاطرة البحث العلمي ومحرك الابتكار، لكنها اليوم تقف في موقع الدفاع عن بقائها المالي والإداري والنزاهة الاكاديمية. فميزانيات البحث العلمي في معظم الجامعات 3% من إجمالي الموازنات، وهي نسبة لا تليق بدولة طموحة لتحقيق اهداف التنمية المستدامة والوصول الى الاقتصاد المعرفي. وعلى الرغم من محدودية مخصصات البحث العلمي، الا انها لا تنفق في الاتجاه الصحيح، ففي العديد من الجامعات تُنفق على المؤتمرات والفعاليات الشكلية، ودعاية أكاديمية، ومكافئات لأعضاء الهيئة التدريسية على بحوث منشورة، تغيب عهنا الأثار التطبيقية او التنموية او حتى المعرفي وغيرها. كما تشير التقارير الى ان إحدى الجامعات أنفقت ما يقارب 200 ألف دينار مكافآت على بحوث منشورة في مجلات مختلفة، خلال ستة أشهر فقط، الا انها خرجت مؤخرًا من قائمة الألف جامعة الأولى عالميًا، في دليلٍ صارخ على أن الكمّ لا يعوّض غياب النوع، والانفاق بهذه الطريقة لا يصنع مكانة أكاديمية بلا رؤية ومنهج.
ويزداد الخطر حين يتسرب الانتحال العلمي والنشر الوهمي إلى مؤسسات التعليم، فالانتحال العلمي، والتأليف الشكلي، ونشر الأبحاث في مجلات وهمية، تحولت إلى ممارسات شبه مألوفة في بعض المؤسسات الاكاديمية، وعندها يتحول الفساد الأكاديمي إلى ممارسة شبه مؤسسية تُدارى بالصمت، ويُكافأ الإنتاج الكمي بدل النزاهة، وبدل أن يُكافح الغش، يُدارى باسم تحفيز النشر. هنا تفقد الجامعة روحها، ويُقتل الإبداع باسم النشر العلمي.
ويزداد المشهد قتامة حين نعلم أن وزير التعليم العالي نفسه صرّح مؤخرًا بأن جودة التعليم في تراجع، وأن نزاهة البحث العلمي والنزاهة الاكاديمية والانفاق المالي غير المبرر للضهور في مواقع متقدمة في التصنيفات والمديونية الجامعية في حالة مقلقة، رغم كل الدعم والخطط والبرامج. ومع ذلك، لم يتغير النهج الإداري، ولم تُراجع آليات الاعتماد والرقابة، وكأن المشكلة قدر لا يُمكن الفكاك منه.
ولحل مثل هذه القضايا والمشكلات، يتم الاكتفاء بتشكيل اللجان، وهي اللجان ذاتها، تتكرر منذ سنوات، تكتب التقارير نفسها، وتقترح الحلول ذاتها، وفي الوقت نفسه يدافع بعض أعضاء اللجان عن الخلل ذاته في حلقة مغلقة من تضارب المصالح وتبادل الأدوار، وفي مواقع أخرى، وتحت عناوين مختلفة. وبذلك أصبح الخلل الأكاديمي منظّمًا أكثر منه عفويًا، تدعمه البيروقراطية وتُغذّيه ثقافة الإفلات من العقاب. وهكذا تحوّل الإصلاح إلى مسرح يُعاد فيه المشهد ذاته بأسماء مختلفة، بينما الأزمة تتعمق عامًا بعد عام. والنتيجة مزيد من التراجع وفقدان الثقة العامة بالجامعات الأردنية التي كانت يومًا عقل الدولة وضميرها.
ان تراجع النزاهة الأكاديمية لم يعد مجرد حالات فردية، بل أصبح سلوكًا مؤسسيًا مغطّى بالصمت. وعلى الجميع ان يعلم ان النزاهة الأكاديمية ليست ترفًا أخلاقيًا، بل شرط وجود الجامعة ذاتها.
اليوم على الجامعات ان تقتنع بان التصنيف لا يُشترى بالمال، بل يُكتسب بالمنهج، والبحث الرصين، والسمعة العلمية الحقيقية. ما يجري اليوم هو تسويق للواجهة لا بناء للجوهر، وإهدار لميزانيات محدودة كان الأولى توجيهها لدعم الباحثين الحقيقين وتطوير المختبرات الرقمية والمهارات.
وفي خضم هذا التدهور، تتحدث بعض الجامعات عن التحول الرقمي والتطوير المؤسسي، بينما جوهر الرسالة الأكاديمية يتآكل من الداخل.
في هذا المشهد القاتم، تطرح رؤية حزب عزم نفسها بوضوح كبديل واقعي وشجاع لإصلاح التعليم العالي، تنطلق من تشخيص دقيق للخلل وتقدّم حلولًا عملية قابلة للتنفيذ، تستند إلى ثلاث ركائز رئيسية، المساءلة، والكفاءة، وربط التعليم بالاقتصاد الوطني.
يرى حزب عزم أن جوهر الأزمة يكمن في غياب الدور الرقابي الحقيقي وتراخي المحاسبة، وهو ما سمح بتمدد البيروقراطية والهدر المالي والتضليل الأكاديمي. فالإصلاح لا يُقاس بعدد الخطط، بل بجرأة المحاسبة.
لذلك، تدعو رؤية الحزب إلى تأسيس هيئة رقابة تعليمية مستقلة وفاعلة ترتبط مباشرة برئيس الوزراء أو بمجلس الامة، تمتلك صلاحيات تدقيق مالي وإداري وأكاديمي، وتراقب الإنفاق الجامعي وموازنات البحث العلمي.
ويقترح عزم ان يكون تقييم أداء الجامعات من لجنة محايدة تشترك فيها الأحزاب، وان يكون التقييم وفق مؤشرات واضحة تشمل جودة التدريس، ونزاهة النشر العلمي، ونسبة توظيف الخريجين، والتعاون البحثي مع القطاعات الاقتصادية، فالدعم يجب أن يُمنح بناءً على النتائج لا العلاقات.
وتؤكد الرؤية أن هيئة الاعتماد مؤسسات التعليم العالي وضبط الجودة، التي يفترض أن تكون الضامن للجودة، وتتحمل مسؤولية بيانات الجامعات، وجودة البحث العلمي، وتطبيق معايير الاعتماد الصارمة، لكنها باتت تكتفي بالتقارير الورقية، وتمنح الاعتمادات دون مراجعة دقيقة لضبط المخرجات التعليمية كافة، في ظل إقرار الوزارة بالتراجع دون حلول جذرية. وعليه يجب أن يتحول عملها من منح الأوراق إلى مؤسسة رقابية تقييمية حقيقية، تمتلك أدوات قياس للأثر العلمي والاجتماعي، وتعيد تعريف الجودة على أسس النزاهة والابتكار لا الواجهة الإدارية.
تؤمن رؤية عزم أن الجامعات لا يمكن أن تنهض بعقلية الإدارة التقليدية أو بالمحاباة في التعيينات. فالإصلاح يبدأ من اختيار القيادات الجامعية على أساس الكفاءة والنزاهة والخبرة، لا الولاء أو العلاقات.
تدعو الرؤية إلى فصل العمل الأكاديمي عن التجاذبات الإدارية، وتطبيق نظام شفاف للتقييم الأكاديمي والبحثي، بحيث لا يُرقّى أحد إلا بناءً على إنتاج علمي حقيقي وخدمة مجتمعية واضحة الأثر.
كما تشدد على ضرورة حماية صوت الأكاديمي الكفؤ والمستقل، الذي غالبًا ما يُقصى اليوم لصالح من يملك النفوذ أو الولاء والحماية من جهات مختلفة، وهو ما أضعف روح الجامعة كمكان للمعرفة الحرة والنقاش المسؤول.
ترى رؤية حزب عزم أن إصلاح التعليم العالي ليس شأنًا أكاديميًا فحسب، بل هو استثمار اقتصادي وطني. فالجامعة هي مصنع الكفاءات، وحين تفشل في أداء دورها، تتكبد الدولة كلفة البطالة وضعف الإنتاجية وهجرة العقول.
ولهذا يقترح الحزب ربط مخرجات التعليم باحتياجات سوق العمل من خلال إعادة تصميم البرامج الأكاديمية بالتعاون مع القطاع الخاص والصناعات الوطنية، وإنشاء مجالس قطاعية مشتركة تحدد المهارات المطلوبة في كل تخصص وتراجعها دوريًا.
كما تدعو الرؤية إلى توجيه الإنفاق نحو البحث التطبيقي والابتكار الرقمي، لا النشر الكمي، وإلى تحويل الجامعات إلى حاضنات للريادة والاقتصاد المعرفي. فالأبحاث التي لا تُسهم في حل مشكلات المجتمع تبقى عبئًا على التنمية لا رافعة لها.
تضع رؤية حزب عزم النزاهة الأكاديمية في قلب الإصلاح، وتدعو إلى إنشاء مرصد وطني للنزاهة البحثية يتابع حالات الانتحال والنشر الوهمي ويصدر تقارير سنوية علنية، ويمنع من تولّى قضايا أكاديمية أو إدارية مشبوهة من شغل مناصب قيادية.
كما تطالب بإطلاق قاعدة بيانات وطنية موحدة للأبحاث، وتدقيق إلزامي لكل بحث مدعوم من المال العام، إضافة إلى تشديد القوانين ضد الانتحال العلمي وإدراجه ضمن المخالفات الجسيمة التي تستوجب الفصل والمساءلة القانونية.
وترى أن استعادة الثقة لا تتحقق بالشعارات، بل حين يُحاسَب من سرق جهد غيره كما يُكرّم من اجتهد بإخلاص، فالأخلاق الأكاديمية ليست ترفًا بل شرط وجود الجامعة ذاتها.
كما ويرى الحزب أن نجاح أي إصلاح تعليمي يبدأ من إعادة الاعتبار للمعلم والأستاذ، وتحسين بيئة العمل الجامعي، وتحديث المناهج الرقمية من المراحل الأولى للتعليم وحتى التعليم العالي، ضمن رؤية متكاملة تعيد صياغة علاقة الطالب بالمعرفة.
فلا إصلاح بلا حرية أكاديمية مسؤولة، ولا تطور بلا عدالة في الفرص والتمويل، ولا مستقبل بلا تربية على النزاهة والعمل والإبداع.
وحزب عزم يرى ايضاً، إنّ اعتراف الوزير بتراجع جودة التعليم يجب أن يكون جرس إنذار وطني لا يُكتفى معه بالتصريحات. المطلوب إرادة سياسية وأكاديمية جريئة تتبنى إصلاحًا حقيقيًا يضع مصلحة الطالب والأستاذ فوق المصالح الشخصية. فحزب عزم يؤمن بوضوح انه لا يمكن بناء اقتصاد معرفي بجامعات مديونة، ولا صناعة نهضة بعقول محبطة، ولا إصلاح بلا مساءلة.
لقد آن الأوان لإنهاء مرحلة التجميل الشكلي وبدء مرحلة العمل الجاد، بتفعيل الرقابة والمحاسبة، وربط تمويل الجامعات بالكفاءة والنتائج، وتشجيع البحث التطبيقي، ووقف الهدر المالي في التصنيفات والعلاقات العامة.
إنّ إنقاذ التعليم العالي يتطلب ثورة فكرية وإدارية حقيقية تُعيد الاعتبار للكفاءة والنزاهة والمعرفة، وتعيد توجيه التمويل نحو الجوهر لا المظاهر، وتفعّل الرقابة والمساءلة في كل مستوى. وهذا ما تتبناه رؤية حزب عزم من خلال برنامج إصلاح شامل يربط بين التعليم، والاقتصاد، والتوظيف، ويضع الإنسان الأردني في قلب العملية التنموية.
وما لم يحدث التغيير الجريء، فسنجد أنفسنا نكرر السؤال ذاته عامًا بعد عام، من الذي يدفع ثمن هذا التراجع؟ وستكون الإجابة المؤلمة، نحن جميعًا ندفعه، علمًا، وسمعةً، ومستقبلًا واقتصادًا، وتدهور التنمية الشمولية التي نعمل جميعاً للوصول اليها.