حوارتنا السياسية.

نبض البلد -

حاتم النعيمات

بقراءة هادئة للمشهد السياسي، يتبيّن أن معظم الاشتباكات النقاشية التي نشهدها لا تنبع من حاجة واقعية بقدر ما تنشأ من مصدرين متلازمين: خلاف على ضبط تعريف المفاهيم، وفجوة عميقة بين الواقعية والمثالية، وهذه الفروقات لا يمكن اعتبارها شأن بسيط أبدًا لأن لها أثر كبير على وزن أطراف إي نقاش أو تفاعل سياسي.

في منطقتنا، يغلب التفكير المثالي، ولذلك تزدهر الأحزاب والجماعات الأيديولوجية. فالأيديولوجيا، في جوهرها، منتج ذهني مغلق، يولد في عقل المنظّر ثم يتحول إلى تعليمات جامدة يتلقاها الأتباع ويطبقونها كما هي، هذه الحركة من العقل إلى الواقع كانت -للأسف- سببًا رئيسًا في إنهاك المنطقة، وجعلها ساحة مفتوحة لمشاريع إقليمية ودولية لا علاقة لها بمصالح شعوبها.

ضمن هذا السياق، تبدو الحركات الإصلاحية والعقلانية وكأنها تسبح عكس التيار، فتواجه مقاومة اجتماعية شرسة، في حين تحصد الأيديولوجيات شعبية واسعة بأقل كلفة فكرية ممكنة، فهي لا تحتاج إلى شرح أو تفصيل، بل تكتفي بشعارات قصيرة، سهلة الهضم، تناسب بيئات لا يحتل فيها العلم ولا البحث موقعًا متقدمًا في سلم الأولويات العامة.

يصف علماء الاجتماع العقل الجمعي بأنه غير نقدي، وانفعالي، وأن الفرد عندما يقع ضمن مجموعة جزءًا كبيرًا من وعيه الفردي، حتى لو كان من النخب المتعلمة، وعندما تقوم الأيديولوجيا أصلًا على تعطيل النقد الفردي، فإن جمع هذه العقول ينتج عقلًا جمعيًا أكثر هشاشة وأشد قابلية للتوجيه، وهنا تحديدًا يكمن تفسير تعطّل مشاريع الإصلاح والنهضة في منطقتنا.

بعض الدول اختارت القمع المباشر لهذه التيارات، وأخرى حاولت احتواءها أو التعايش معها، والنتائج كانت متباينة؛ نجاح جزئي هنا، وفشل ذريع هناك. الأردن، في هذه اللحظة التاريخية، يقف في قلب اشتباك معقّد بين ثلاثة مشاريع أيديولوجية كبرى: مشروع سني تقوده تركيا من الشمال، ومشروع شيعي تقوده إيران من الشمال الشرقي، ومشروع يهودي صهيوني يتمثل بكيان الاحتلال من الغرب.

في ظل هذا الواقع، يصبح مطلوبًا من السياسي الأردني ما يفوق ما يُطلب من غيره؛ فالمناورة هنا أدق، والهامش أضيق، والخطأ أعلى كلفة، لذلك لا مكان للتبسيط، ولا متّسع للتعامل الساذج مع خارطة سياسية شديدة التعقيد، ولا يجوز قياس المشهد الأردني بمعايير مستوردة أو نوايا حسنة غير محسوبة.

التبسيط الخطير يتجلى حين تُعامل تيارات مرتبطة بالخارج بوصفها تيارات طبيعية في سياق طبيعي، متجاهلين تاريخها وسلوكها وتجاربها في دول الجوار، وفي هذا التغاضي مساس مباشر بالمصلحة الوطنية، وهو ما يفسّر حجم التشويش الذي يصيب أي مشروع نهضوي أردني، وكيف تتحرك هذه التيارات في الفضاء السياسي دون مساءلة حقيقية.

قد يبدو هذا الطرح عامًا، لكنه مقصود؛ فالحديث عن البنية الذهنية للسياسة العربية ضرورة لفهم ما يجري في الأردن اليوم، خصوصًا ونحن نمرّ بمرحلة تصحيح مسار حساسة. أعتقد أن المخرج الوحيد يتمثل في اعتماد معيار وطني محلي صارم، بلا مجاملات، تُفرز على أساسه التيارات والمواقف. هكذا تُبنى السياسة الصحية في الدول المستقرة بتصوري.

لسنا في رفاه إعادة اكتشاف هذه التيارات أو منحها فرصًا جديدة لإثبات ما أثبتته التجربة سلفًا؛ فهناك خصائص بنيوية في تركيبها تمنعها من تعديل سلوكها، ومن هنا، يصبح الاستغراب مشروعًا حين نرى بعض السياسيين ما زالوا يتعاملون معها بخفة، وكأن الخطر غير قائم، أو كأن التجربة لم تقل كلمتها بعد.