نبض البلد -
أ.د سلطان المعاني
يُربّي المكان الأردني أبناءه على "حدٍّ” واضح: حدّ الطبيعة حين تُمسك بالمطر وتُطلقه على مهل، وحدّ الطريق حين يمرّ قرب البيت ولا يقتحم خصوصيته، وحدّ الجوار حين يصير حقًا قبل أن يصير علاقة. تُنتِج هذه الحدود تربيةً صامتة، تترك أثرها في الشخصية أكثر مما تتركه المناهج والخطب؛ إذ يتعلم المرء منذ طفولته أن الحياة تُدار بالحساب، وأن الكفاية فضيلة، وأن السعة تُقاس بالقدرة على التدبير، لا بوفرة الأشياء.
يُدخِل الأردن ساكنه في تجربةٍ جيولوجية ونفسية متجاورة: انحدار الغور الذي يضع القدم في قاعٍ غير مألوف، ثم صعود الهضاب حيث الهواء أصفى والنظر أبعد، ثم انفتاح البادية حيث يشتغل الأفق بوصفه امتحانًا للروح. هذه صناعة مزاج جمعي. من يعيش قرب انتقالات حادّة بين بيئات في مساحة قريبة يتشرّب سرعة التكيّف، ويتقن تبديل الأدوات، ويتجنب الغرور المعرفي؛ لأن المكان نفسه يُذكّر بأن ما يصلح هنا قد لا ينفع بعد ساعة. هكذا تتكوّن واقعية أردنية تُحبّ الحلول وتكره الترف الذهني حين ينفصل عن الحاجة.
يُعلِّم شحّ الماء درسًا اجتماعيًا عميقًا من غير محاضرة. يُصبح الماء ذاكرةً يومية: يُقاس به صدق الناس، ويُوزن به سخاؤهم، ويُفهم به نظامهم. تُنشئ الندرة أخلاقًا خاصة: اقتصادًا في الاستهلاك، كرمًا مدروسًا، احترامًا لحق العابر، حساسيةً تجاه الإسراف، ووعيًا بأن البقاء فعلٌ جماعي. تتجسد هذه التربية في تفاصيل صغيرة: طريقة تقديم القهوة، ترتيب الضيافة، حفظ وجه السائل، ستر حاجة المحتاج، ثم الإيثار حين يقتضي المقام. هنا تتبدّل صورة "السخاء” من اندفاع عاطفي إلى ممارسة منضبطة تعرف قيمة الشيء قبل أن تمنحه.
يُحوّل موقع الأردن كبلد ممرّاتٍ اجتماعيةٍ إلى مدرسة في الذكاء العلاقي. تتكرر عبر الزمن صورة العابر: تاجر، حاج، طالب رزق، زائر، وافد، ضيفٌ جاء من جهةٍ بعيدة ومعه حكاية مختلفة. يولّد هذا التكرار قدرةً على استقبال المختلف دون فقدان الحسّ بالذات. يعتاد المجتمع أن يفتح بابًا للغريب، ويحتفظ في الوقت نفسه بحسّ داخلي يميّز بين القرب الآمن والقرب الذي يهدد التوازن. تتأسس هنا شخصية تجمع بين اللطف والحزم دون تناقض؛ ابتسامة تُعلن الأمان، وقامة مستقيمة تُعلن حدود الاحترام. يترسخ هذا السلوك عبر أجيال حتى يغدو جزءًا من "نحو” الحياة اليومية: كيف تُقال الجملة، وكيف يُمنح المقام، وكيف يُدار الخلاف دون انحدار.
يُنشئ الأردن وجدانه عبر ثقافة الصمت المهيب أكثر من ثقافة الاستعراض. تُعطي الهضاب والبادية للإنسان وقتًا طويلًا للتأمل، وتفرض عليه علاقةً حميمة مع ذاته. في فضاءٍ واسعٍ تتساقط الزوائد سريعًا؛ يثبت الضروري وحده. ينمو شعورٌ داخلي بأن الكلام يُشترى بثمن، وأن الوعود تُمحَّص بالأفعال، وأن المبالغة تهدر الهيبة. لذلك تبدو الانفعالات، في كثير من البيئات الأردنية، أقل صخبًا وأشد رسوخًا: حزنٌ يُصان، فرحٌ يُدار بوقار، محبةٌ تُثبتها المواقف أكثر مما تثبتها العبارات. هذا ليس فتورًا؛ هو أسلوب في صيانة الداخل من التبديد.
يُعمّق المكان الأردني حسّ الكرامة لأنه يُجبر الإنسان على أن يعرّف نفسه أمام القسوة الطبيعية قبل أن يعرّفها أمام الناس. من يفاوض البرد والحرّ ووعورة الطريق وقلّة الموارد يتعلم أن كرامته رأس مالٍ أخلاقي: إن ضاع تساقطت القدرة على الاحتمال. لذلك تخرج "العزّة” في الشخصية الأردنية بوصفها سلوكًا يوميًا: رفضٌ للاستهانة، نفورٌ من الاستغلال، حرصٌ على السمعة لأن السمعة في المجتمعات المتماسكة ضمان اجتماعي. ومع هذا الحزم ينهض خيط آخر من الحكمة: الميل إلى التسوية التي تحفظ الوجه وتُبقي النسيج سليمًا، والبحث عن حلّ يوقف النزاع قبل أن يستحيل نزيفًا. هنا تتجلّى عقلانية اجتماعية نشأت من خبرة العيش القريب: الناس يعرفون أن الخصومة إذا استمرّت تلتهم القرابة والجوار والعمل.
يُنتج الأردن حسًا خاصًا بالزمن: زمنًا عمليًا لا خطابيًا. تتبدّى هذه السمة في تقدير العمل المتدرّج، وفي احترام الحرفة، وفي تبجيل الإنجاز الهادئ. من يتأمل سلوك الناس يلمح نفورًا من الشعارات التي لا تتبعها نتائج، وتفضيلًا لمن "يُنجز” على من "يُفخم الكلام”. تُصاغ هذه النزعة من علاقة المكان بمواسمه: موسم المطر لا يقبل الخداع، وموسم القحط يفضح الادعاء، وموسم الزرع يطالب بالصبر. يتعلم الإنسان أن ينتظر وأن يعمل في آن، وأن يوازن بين الأمل والخطة.
وتتكون عبقرية المكان الأردني، في أعمق مستوياتها، من قدرته على تدريب الإنسان على التأويل. الطبيعة هنا ليست منظرًا ساذجًا؛ هي إشارات. الغيم يُقرأ، الريح تُقرأ، ظلّ الجبل يُقرأ، مسار الطريق يُقرأ، صمت الصحراء يُقرأ. يعتاد الإنسان أن يفهم ما وراء الظاهر: أن يقيس الأخطار قبل وقوعها، وأن يلتقط تغير المزاج في الجماعة قبل أن يتحول إلى أزمة، وأن يقتنص الفرصة في وقتها. من هذا الميل إلى القراءة تتولد فطنة اجتماعية: سرعة فهم المقاصد، قدرة على تقدير المقامات، ذكاء في توزيع الكلمات والسكوت وفق الحاجة.
ويظلّ الأثر الأوسع في تشكيل الشخصية الأردنية هو الجمع بين التواضع والثقة. التواضع يأتي من الطبيعة التي تضع الإنسان في حجمه كل صباح، والثقة تأتي من القدرة على النجاة والتدبير. ينشأ هنا نموذج إنساني يبتعد عن الادعاء، ويحبّ الحقيقة المباشرة، ويُفضّل الصلابة الهادئة على الاستعراض. لذلك يصعب أن تُفهم "خصوصية الأردني” بعيدًا عن تربية المكان: تربية الندرة التي تهذب الاستهلاك، وتربية العبور التي تُحسن استقبال الناس وتُحسن صيانة الذات، وتربية الأفق التي تدرّب النفس على الاتساع من غير ضياع، وتربية المواسم التي تبني احترام العمل وخطوة اليوم.
هكذا تُقرأ عبقرية المكان الأردني: مدرسة أخلاقية وفلسفية تُنتج إنسانًا عمليًا عميقًا، كريمًا محسوبًا، لطيفًا قويًا، صبورًا يقظًا، شديد الحسّ بالكرامة وبالحدود وبالوجه الاجتماعي. وبقدر ما تتقدم الدولة الحديثة وتتشعب أشكال العيش، يبقى هذا الدرس قائمًا؛ لأن جذوره ليست فكرة عابرة، جذوره خبرةُ أرضٍ صاغت طباع أهلها كما تصوغ الريح وجه الصخر: على مهل، وبإصرار، وبأثرٍ يبقى.