نبض البلد - فارس قاقيش- نيويورك
ترجمة بتصرّف عن نيويورك تايمز
حين تتحوّل الدولة التي تنتمي إليها إلى وحشٍ يقتل الأبرياء، وتُمارس القتل باسم الأمن، والنهب باسم القانون، ماذا تفعل؟
هل تلوذ بالصمت وتقول: «ليس باسمي»؟ أم تقف في وجه الوحش، حتى لو كانت معارضة واحدة له تعني خسارة عملك أو سجنك أو ربما نفيك؟
في مقالها المنشور في نيويورك تايمز، تطرح الكاتبة ماشا جيسن اليهودية الروسية المولد سؤالًا أخلاقيًا في الصميم:
كيف تكون مواطنًا صالحًا في وطنٍ سيّئ؟
فمن خلال أصوات إسرائيلية معارضة للحرب على غزة، تفتح جيسن جرحًا أخلاقيًا عميقا يتجاوز حدود فلسطين، ليشمل كلّ من يعيش في دولةٍ تمارس الظلم على الآخرين وتطالب مواطنيها بالصمت.
تبدأ جيسن من تل أبيب، في مقهى أنيق لا يبعد سوى أربعين ميلًا عن الجوع والموت في غزة. هناك التقت مايكل سفارد، المحامي الذي أمضى حياته يدافع عن الفلسطينيين في المحاكم الإسرائيلية، حيث قال لها وهو يحتسي قهوته بنهم:
«أشارك في جريمة بلدي، حتى وأنا أتحدث إليك الآن، بدفعي الضرائب، وبصمتي، وبمجرد كوني جزءًا من هذا النظام».
كتب مايكل سفارد لاحقًا مقالًا بعنوان:
«نحن الإسرائيليون جزء من عائلة جريمة منظّمة، ومهمّتنا أن نحاربها من الداخل». دعا من خلاله إلى دعم رافضي الخدمة العسكرية، وإلى العقوبات والعزلة الدولية ضد حكومته. فبرأيه أنه لا يمكن للمرء أن يدّعي البراءة بينما تُرتكب الجرائم باسمه.
وبالمناسبة، فقد كتب الدكتور أيوب أبودية عن مايكل سفارد في كتابه "يهود ضد الصهيونية" صفحة 142 والذي صدر عن دار الآن بعمان 2025، وشمل 67 مفكرا يهوديا معارضا للصهيونية، وقدّم للكتاب بروفسور التاريخ المعروف إيلان بابيه.
وتقول ماشا جيسن تحت عنوان: "رفض السلاح... أشرف أشكال المقاومة" بأن الخدمة العسكرية في إسرائيل ليست واجبًا وطنيا فقط، بل طقس ولاء للدولة. لذلك فإن رفض الخدمة يُعدّ عصيانًا مقدّسًا.
ومن بين هؤلاء الرافضين للتجنيد إيلا كيدار غرينبرغ، التي وقّعت وهي في السادسة عشرة على بيانٍ يرفض الالتحاق بالجيش. فعشية تجنيدها، سجّلت فيديو قالت فيه:
«لن أشارك في الإبادة في غزة. الرفض واجبٌ أخلاقي».
وفي اليوم التالي دخلت إيلا السجن العسكري، حيث وُضعت في عزلة تامة لأنها متحوّلة جنسياً. وتعمل إيلا اليوم في قرية يطّا جنوب الخليل، كدرعٍ بشريٍّ يحمي الفلسطينيين من اعتداءات المستوطنين الهمجية (كما فعلت البطلة راشيل كوري Rachel Corrie وطمرتها جرافة اسرائيلية وهي حية عام 2003). إذ تقول:
«العار لا يحرّكني، بل المسؤولية… والغضب. أنا إسرائيلية، شئت أم أبيت، لكنني أختار أن أكون إسرائيلية تقاوم لا تُبرّر».
وتحت عنوان: "حين يصبح الضحك سلاحًا" تشير إلى الكوميدية نوعم شوستر إلياسي، التي اختارت المقاومة عبر ممارسة الضحك. وقد نشأت في قرية واحة السلام نيفي شالوم التي يعيش فيها اليهود والعرب معًا على قدم المساواة، لكنها اليوم ترى قسوة العالم تتسلل حتى إلى هذه الواحة الصغيرة. إذ تقول:
«الزملاء الذين كنت أشاركهم المسرح صاروا يسخرون من الأطفال الجائعين في غزة. أعرف وجوههم وأصواتهم وروائحهم… وأعرف كم كنت قريبة من أن أكون مثلهم».
تعلم نوعم أن حرق جواز سفرها لا يمحو هويتها الإسرائيلية، لكنها تؤمن أن الهروب ليس خلاصًا بل خيانة. وتستمد قوتها من الفنانين الإيرانيين الذين يقاومون القمع في بلادهم قائلًة:
«إذا استطاعوا أن يقاوموا في طهران، فلا عذر لي أن أهرب من تل أبيب».
وتحت عنوان جديد "وطنٌ لا يعرف الخلاص" يظهر أيضًا المخرج جوناثان ديكل، الذي وقّع سابقًا تعهدًا برفض الخدمة في جيشٍ غير ديمقراطي، لكنه حمل السلاح في صباح السابع من أكتوبر. ولكن بعد عامين من الحرب، قرّر الرحيل إلى الولايات المتحدة لأن الهجرة كانت الطريق الوحيد للرفض ومن دونها تقع عليه عقوبة السجن. إذ يقول:
«أتمنى لو استطعت أن أرى الأمور بالأبيض والأسود، لكنني أعيش في الرماد. حتى الذين لا يحملون السلاح يموّلون القنابل من جيوبهم».
فكلامه واضح أنه موجّه أيضًا للأمريكيين الذين يتظاهرون من أجل السلام، فيما تذهب ضرائبهم لدعم الحرب.
وتحت عنوان: "المواطنة في زمن الشرّ" تختتم جيسن مقالتها بخلاصةٍ بديعة قائلة:
«لكي تكون مواطنًا صالحًا في وطنٍ سيئ، عليك أن تفعل ما يعود عليك بالضرر»، فقد يكون ذلك بكتابة مقالةٍ تُتهم بسببها بالخيانة أو التضليل، أو باستخدام جسدك لحماية إنسانٍ مهدّد، أو ببساطة أن ترفض أن تكون المتفرّج الصامت. فالصمت موقف، والحياد مشاركة في الجريمة.
وبناء عليه، فإن هذه المقالة ليست عن الكيان الإسرائيلي وحده، بل عن كلّ وطنٍ يُطالب فيه أبناؤه بأن يصمتوا أمام الظلم؛ هي عن أمريكا التي تموّل الحرب، والعالم الذي يتفرج ويبرّر. فأن تكون مواطنًا صالحًا، يعني أن تكون إنسانًا أولًا، حتى لو كان ثمن إنسانيتك الغربة داخل وطنك.