ترامب دائماً يتراجع ،، لا بل وأمام الصين يخضع

نبض البلد -

د. غازي العسّاف

أستاذ الاقتصاد – الجامعة الأردنية

ما حدث خلال الأيام القليلة الماضية من تحولات كبيرة في الموقف الأمريكي تجاه الصين يكشفُ وبشكل واضح بأنّ هناك تحولاً جذرياً في موازين القوة الاقتصادية العالمية، إذ أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعد لقائه الرئيس الصيني شي جين بينغ بأنّ هناك تخفيضاً للرسوم الجمركية على الصين من 57٪ إلى 47٪، وتأجيلاً للقيود على المعادن النادرة لمدة عام، واستئناف شراء فول الصويا، وبخاصة أنّ هذا التراجع جاء بعد أسابيع قليلة من التهديدات التي أطلقها ترامب نفسه حول نيته فرض رسوم بنسبة 100٪ على التجارة مع الصين. وهذا برأيي يُشير إلى دلالات على أنّ هناك نقطة تحوّل كبيرة في الحرب التجارية بين أكبر اقتصادات العالم، وهو بلا شك تراجع أمريكي كبير مقابل الصين.

إنّ المُتتبّع لأنماط التجارة بين البلدين واللذان يُشكّلان ما نسبته 43٪ من حجم الناتج الاجمالي العالمي بحسب آخر الاحصائيات، يجدُ بأنّ القوة التفاوضية للصين تأتي بشكل أساسي من سيطرتها على سلاسل القيمة للمعادن النادرة، إذ تُسيطر على حوالي 69٪ من الانتاج العالمي لهذه المعادن النادرة، وحوالي 92٪ من قدرات التكرير والمعالجة، إضافة الى سيطرتها على حوالي 98٪ من انتاج المغناطيس الدائم، وهي بكل تأكيد عناصر مُهمة وحيوية في الصناعات الدفاعية والصناعات الإلكترونية والطاقة المتجددة وقطاعات حيوية أخرى في العالم.

خلال الفترة الزمنية القصيرة الماضية، نجحت الصين في استخدام أوراقها الاستراتيجية بذكاء، ففي بداية شهر أكتوبر 2025 فرضت الصين كإجراء مُضاد للسياسات الجمركية الأمريكية قيوداً كبيرة على تصدير خمسة معادن حيوية ونادرة، مع العلم بأنّ مسألة إيجاد بدائل لهذه المعادن للسوق الأمريكي والعالم قد يتطلب سنوات وأحياناً عقود من الزمن، الأمر الذي يجعل هذه الورقة بالغة الأهمية بالنسبة للصين في حربها التجارية.

على الجانب الآخر، تكشف آخر الأرقام بأنّ الاقتصاد الأمريكي يتحمّل تكلفة اقتصادية باهظة لهذه الحرب التجارية، فالارتفاعات المُستمرة في الرسوم الجمركية يزيد التكلفة المباشرة على الأسر الأمريكية ويرفع العب الضريبي عليهم إضافة الى تخفيض في مستويات دخولهم الحقيقية. أما على المستوى الكلي، فتشير بعض التقديرات الى أن مستويات الأجور الحقيقية قد تنخفض بواقع 1.4٪ خلال عام 2026 وقد يتراجع الناتج المحلي الاجمالي الأمريكي بحوالي 1-2٪ خلال نفس العام، الأمر الذي قد يرفع معدلات البطالة بنسبة 0.4-0.6٪ وخسارة ما يفوق 500 ألف وظيفة في السوق الأمريكي.

فيما يتعلق بحجم الميزان التجاري الكلي بين الصين وأمريكا، تُشير آخر الاحصائيات إلى أنّ العجز التجاري الأمريكي مع الصين وصل إلى حوالي 267 مليار دولار خلال الاثني عشر شهراً حتى شهر تموز 2025، وهو ما يُشكّل حوالي 20٪ من إجمالي العجز التجاري الأمريكي، فبالرغم من كل ما قام به دونالد ترامب من إجراءات، تبقى الصين هي المصدر الرئيس والأكبر للعجز التجاري الأمريكي. علاوة على ذلك، فإنّ المُلفت للنظر بأن ذات الأرقام تُشير إلى أنّ الفجوة التجارية بين أمريكا وشركائها الرئيسيين قد اتسعت ايضاً، لا بل ونجحت الصين خلال نفس الفترة في تنويع أسواقها، إذ استمرت في زيادة فائضها التجاري الاجمالي مع الأسواق الأخرى غير الأمريكية.

في الآونة الأخيرة ظهر مُصطلح شائع بين المحللين وفي الإعلام الأمريكي يُعرف بـ "TACO" وهو اختصار لـ "Trump AlwaysChickens Out" والذي يعني بأنّ ترامب دائماً يتراجع، وهو وصف مُختصر لنمط التهديدات التي يطلقها ترامب ثم يتراجع عنها بين الحين والآخر، ومن هنا فأنني أرى بأنّ هذا المفهوم يُمكن أن يُصبح اليوم "TACTC" وهو اختصار لـ " Trump Always Caves ToChina” والذي يعني بأنّ ترامب دائماً يخضعُ للصين. في المُحصلة، إنّ كل ما يجري اليوم يُشير وبكلّ وضوح بأن حجم الاقتصاد وحده لا يعكس القوة الاقتصادية الحقيقة للدولة، فالقوة الحقيقة اليوم مصدرها امتلاك الدولة وسيطرتها على العناصر والسلع الحيوية لسلاسل الإمداد العالمية، وقد نجحت الصين اليوم في اخضاع ترامب، وهذا بلا شك كان نتاج طبيعي لاستمرار استثمار الصين على مدى سنوات في بناء قوة وسيطرة شاملة على سلاسل القيمة الكاملة للمعادن النادرة، بينما أهملت أمريكا مثل هذه القطاعات الاستراتيجية.