نبض البلد - 
	
مماجد ابو رمان 
كان الشيخ سالم أبو رمان (أبو صلاح) من أولئك الذين لا يمرّون في الحياة مرّ العابرين، بل يتركون في طريقهم ملامح الأزل. كان رجلاً إذا نظرت إليه خُيِّل إليك أن المهابة خُلقت على صورته، وأن الرجولة وجدت تعريفها الأول في اسمه.
	
لم يكن من الذين يُحدّثون عن مواقفهم، بل من الذين تُحدّث عنهم المواقف ذاتها. كان يمشي كمن يعرف أن الأرض تعرفه، وكأنّ الجبال حين يمرّ تخلع له صمتها إجلالًا، فيغدو المكان أكبر بوجوده، والزمان أبطأ حين يغيب.
كان العم ابوصلاح— رحمه الله — قامةً تُشبه الفجر في حضوره، يجيء فلا يصرخ الضوء، لكنه يُضيء. رجلٌ صاغته التجارب من نارٍ وماء، فأخذ من النار صلابتها، ومن الماء صفاءها، فاجتمعت فيه القوّة والرقة في معجزةٍ من خلق الله لا تتكرّر.
	
كان صدقه حدًّا من حدود الله، لا يتبدّل ولا يُقايض، وكان إذا قال، شعرت أن الحقيقة نفسها وقفت لتستمع. لا يعرف الالتواء، لأن المروءة عنده كانت مِلحَ الوجود، والصدق دينًا قبل أن يكون خُلقًا.
وفي شجاعته كانت الطمأنينة، لا التهوّر؛ كان من أولئك الرجال الذين يُخيفون الباطل بسكوتهم، ويُربّتون على قلوب الناس بكلمةٍ واحدةٍ تزنُ جبالًا.
	
لكنه، خلف تلك الصلابة التي تُشبه السيف، كان قلبه نُعاسَ طفلٍ يبتسم في حضن أمّه. كان حنونًا في موضع الحنان، عطوفًا في مواطن الألم، يملك في عينيه دفء وطنٍ صغيرٍ لا يُؤذي أحدًا. فإذا اقتربت منه رأيت أن القوة لا تناقض الرحمة، وأن الرجولة الحقيقية تُولد من رحم اللين لا من صخر القسوة.
	
رحل الشيخ سالم، لكن ملامحه بقيت في تفاصيل الرجولة كما تبقى ملامح الفجر في الذاكرة كلّما انقشع الليل. لم يمت، لأن الذين يشبهونه لا يُودَعون في التراب، بل في الضمائر. لم يمت، لأن الموت لا يجرؤ على أن يطوي صفحةً كُتبت بمجدٍ وحياءٍ في آنٍ واحد.
بعض الرجال — كأبي صلاح — لا يغيبون، بل يتحوّلون إلى مِحرابٍ من معنى، تُصلّي في ظله كلّ فضيلةٍ فقدت مكانها في هذا الزمن.
	
سلامٌ عليه في الخالدين، سلامٌ على صلابته التي علّمتنا أن الكبرياء ليست غطرسة، وأن التواضع لا يُنقص المهابة، وأن الرجولة الحقة لا تُرفع بالصوت، بل تُقاس بثقل الصمت وهيبته.
سلامٌ على رجلٍ كان إذا وقف بدا كأنه دعاءٌ مُستجاب، وإذا رحل، شعرت أن الأرض أنقصت من رجولتها مقدار إنسان.