صدمة وإنكار... ابني مدمن..ما العمل؟

نبض البلد -
بقلم:أنس الطنطاوي.

تذكير مر يتذكر كاتب هذا المقال أنه في إحدى السنوات، اكتشف أب أن ابنه مدمن. كانت صدمته قوية جداً، فكون الأسرة سمعتها طيبة، لم يتخيل أن رفاق السوء سحبوا ابنه لهذه الهاوية. كانت ردة فعله تسرعاً قاسياً، فقام بضربه وطرده من المنزل. الشاب، الذي كان في مقتبل العمر (23 عاماً) وكان قد تخرج للتو من الجامعة بتقدير ممتاز ويتمتع بسمعة طيبة، خاف من والده بعد الطرد ولم يعد للمنزل، بل ذهب ونام عند اثنين من أصدقائه، أحدهما متعاطٍ والآخر مروّج. في تلك الليلة، قاموا بزيادة الجرعة له. وعند الفجر، جاء الأب اتصال هاتفي من المستشفى يخبره بوفاة ابنه وعليه الحضور. وبين الطب الشرعي والتشريح أنه توفي بجرعة زائدة من المواد المخدرة.

النتيجة القاسية: دخل الأب في دوامة من الندم الشديد على تسرعه وردة فعله السلبية التي لم تترك لابنه ملاذاً آمناً، وأدرك متأخراً أن علاج الإدمان لا يكون بالضرب أو الطرد، ولو كان كذلك، لانحلت كل مشاكل المخدرات في العالم. واخد الاب يتذكر الحرية المطلقة التي كان يتمتع بها ابنه المتوفي، وامور اخرى كثيرة منها المصروف الزائد.

إن وفاة هذا الشاب بجرعة زائدة لم تؤثر فقط على سمعة العائلة في المجتمع مع الأسف، بل دمرت كيانها. فقد دخلت والدته في دوامة نفسية صعبة، ولا تزال العائلة تعاني من الآثار النفسية لوفاته بهذه الطريقة.
لنتوقف لحظة لنتحدث بصدق وواقعية مطلقة، فالتجاهل والسكوت عن هذا الأمر أصبح ثمنه باهظاً. عندما يُقرع الباب وتنزل الصدمة الكبرى: "ابني مدمن"، فإن هذا ليس مجرد خبر، بل هو قذيفة حقيقية تهوي على أساس الأسرة، وتهدد بتدمير كيانها.وهنا يأتي دور القائد الحكيم للاسرة.

إن مشكلة الإدمان لم تعد ترفاً يمكن تجاهله، بل تحولت إلى مشكلة معقدة تهدد نسيج المجتمع وكيان الأسرة. فالإدمان ليس مجرد عادة سيئة، بل هو مرض مزمن يؤثر على الدماغ والسلوك، ويدمر الصحة الجسدية والنفسية للفرد. إنه آفة تسلب الإرادة، وتجعل المدمن أسيراً لمادة أو سلوك يدفعه نحو حافة الهاوية، مما يؤدي إلى التفكك الأسري والانهيار الأخلاقي والاجتماعي. إن مواجهة هذا الخطر تتطلب منا جميعاً اليقظة المطلقة والإدراك التام لمدى خطورته.
الصدمة الأولى: لحظة الاكتشاف المُرّ
تتشابه القصص في بدايتها، حيث يلاحظ الأهل تغيرات تدريجية: سهر متواصل، عصبية غير مبررة، الحديث الهاتفي يكون غالبا من خلال الرموز وبصوت منخفض وتكون المكالمة سريعة، اضطراب واضح في عادات النوم والطعام، خروج متكرر ومفاجئ من المنزل، اختفاء للمال واشياء اخرى ثمينة احيانا. وكثيراً ما نلاحظ أن الشاب تختفي منه الأموال، حيث يتم استغلال الشباب مالياً من قبل رفاق السوء المتعاطين أو المروجين . كما يُلاحظ إهمال عامل الوقت وعدم اكتراثه بالمواعيد، وتراجع في المستوى الدراسي إن كان طالباً، أو في الأداء المهني أو المهام الموكلة إليه إن كان موظفاً أو عاملاً. بالإضافة إلى أن سلوكه يميل نحو الانطوائية، ولا يراعي حاجاته ولا حاجات الآخرين، ويبتعد تدريجياً عن محيطه الاجتماعي. حينها يبدأ القلب بالانقباض، ويحاول الأهل يائسين إيجاد المبررات الواهية. لكن يجب التأكيد على أن وجود مؤشر أو مؤشرين فقط لا يعني بالضرورة الإدمان، وقد تكون أعراضاً لمشكلات أخرى تستدعي المتابعة.

ثم يأتي اليوم الذي يُكشف فيه المستور. قد تكون حبة أو مجموعة حبوب مخبأة، أو مادة تبغية،أو زجاجية بلورية،أو سيجارة مختلفة الشكل،او بودرة غريبة، أو إبرة ملقاة، أو رائحة غريبة، أو حتى مكالمة هاتفية من جهة أو شخص ما تكشف الأمر.

هنا تحل الصدمة الحقيقية. يتوقف الزمان، وتتوالى الأسئلة المؤلمة: "أين كنت؟"، "كيف حدث هذا؟"، "ما الخطأ الذي ارتكبته؟".
الإنكار: ستار يخفي وراءه الخوف
للأسف، يلجأ أغلب الآباء والأمهات بعد الصدمة إلى مرحلة الإنكار. "لا، مستحيل أن يكون ابني!"، "هذه زلة بسيطة وستمر"، "إذا أخبرت أحداً ستكون فضيحة تلاحقنا". إن الإنكار ليس مجرد رفض للحقيقة، بل هو خوف من نظرة المجتمع، خوف من وصمة العار التي قد تلتصق بالعائلة، والأهم هو الخوف من مواجهة حجم المشكلة الحقيقي.

أيها المجتمع، الإنكار قاتل، فكل دقيقة تُهدر وأنت في حالة إنكار، يغرق فيها ابنك أكثر فأكثر. إن الإدمان ليس مجرد ضعف سلوكي، بل هو مرض حقيقي، يجب التعامل معه وعلاجه كأي مرض عضوي آخر. لا عار ولا فضيحة في المرض.

ما العمل؟.. خطوات يجب اتخاذها فوراً
1. ارفع الستار: واجه الحقيقة!
* لا تنكر: اعترف بالإدمان كمرض. هذه هي الخطوة الأولى والأكثر أهمية.
* تجنب لوم الذات: لا تَلُمْ نفسك ولا تَلُمْ ابنك او والدتة او غيرهم. يجب أن يتركز الجهد الآن على إيجاد الحلول وليس على لوم الماضي.
2. بناء جسر الثقة والحوار (المفتاح لبدء العلاج)
* الأمان أساس المواجهة: يجب أن يشعر ابنك بالأمان والثقة الكاملة. تذكر أنه شخص ضعيف بسبب مرضه، ويكون خوفه منك هو ما يمنعه من البوح. امنحه الأمان، وعندها سيطلب المساعدة وسيعترف بكل شيء؛ وحينها فقط تبدأ الحلول الحقيقية.
* اقتناص فرصة الاعتراف: يجب أن يتم الحصول على الاعتراف بألاسلوب الودي والتفاهم. لا تتوقع أن تستفيد من الجلسة الأولى، فقد يتطلب الأمر عدة جلسات لفتح قلبه. استمع إليه لتعرف كيف وقع في المشكلة لا لتوبّخه ولومة في هذة المرحلة.
* بدائل الثقة: إذا لم تنجح في بناء الثقة بسبب خوفه الشديد أو توتر العلاقة، الجأ فوراً لمساعدة شخص آخر موثوق ويثق فيه ابنك (قريب، معلم، مرشد نفسي، أو صديق أسرة حكيم او رجل دين متمكن). هذا الشخص سيكون جسر العبور لاعترافه وطلب المساعدة.
3. التعامل الآمن مع الأدوات والمواد:
* التحفظ الفوري: إذا تم العثور على مواد أو أدوات تعاطٍ في غرفته، لا تتعامل معها بشكل مباشر أو تحاول شمّها أو تذوقها كما يُشاهد في بعض الأفلام. يجب التحفظ عليها ضمن أدوات آمنة (كيس محكم الإغلاق مثلاً).
* الاختصاص هو الفيصل: المختصون والجهات الأمنية هم من يتعاملون مع هذه المواد ويحددون طبيعتها. هدفك الآن هو سلامة ابنك وعلاج هذا المرض.
4. لا للعنف، نعم للحزم:
* احتواء وحزم: يتطلب التعامل مع الإدمان حزماً، وليس عنفاً. تجنب الضرب والصراخ. ولكن يجب قطع أي دعم مادي يسهل عليه ممارسة الإدمان.
* ابحث عن الدعم الأسري: يحتاج الأهل أيضاً إلى دعم نفسي وإرشادي لمعرفة كيفية التعامل السليم مع هذا الموقف العصيب.
5. ابحث عن مساعدة متخصصة (السرية هي الأساس):
* تواصل مع المختصين فوراً: مراكز علاج الإدمان والمؤسسات النفسية المتخصصة.
* المبادرة تضمن السرية: لا تخف من التعامل مع الجهات المعنية بعلاج الإدمان، فإذا بادر الأهل بطلب العلاج، يتم التعامل مع الحالة بصفة المريض وليس المجرم، ويتمتع بسرية تامة بموجب القانون الإنساني.
6. لا تتردد في طلب الاستشارة أو الإبلاغ:
* الإبلاغ لغرض العلاج ليس جريمة: لا تخف من التعامل مع الجهات المعنية بالعلاج، فهم مصدر للمساعدة.وبداية رحلة التعافي تبدأ عند لحظة اعتراف الأسرة بالمشكلة ومن ثم اعتراف الابن
والأهم بعد استكمال البرنامج العلاجي ابدأ بتطبيق الخطوات العملية:
* تأمين البيئة المنزلية المناسبة التي تضمن المحافظة على المكتسب الجديد
* الالتزام الصارم بالبرنامج الموضوع من قبل الأطباء والمعالجين بما يخص الادوية والمراجعات الطبية،لضمان رعاية لاحقة مثمرة.
* دعم الأسرة: الصبر والمتابعة كون الإدمان مرض مزمن يحتاج إلى متابعة طويلة الأمد،والاهم تغيير نمط حياتة بعد الخروج من البرنامج العلاجي ووضع برنامج جديد ومختلف عن مرحلة ما قبل الإدمان،يتضمن تغيير اصدقاءة وارقام هواتفة ومواقع تواصلة وذلك بالاتفاق معة،وخاصة انة في هذة المرحلة يصبح أكثر وعيا واستبصارا بما يجري حولة وسوف تحصل منة على استجابتة مرنة.

أيها الآباء والأمهات، تذكروا أنكم لستم وحدكم في هذا الصراع. اكسروا حاجز الصمت والإنكار، ومدوا يد العون لأبنائكم، فهم في أمسّ الحاجة إليكم. وأنهم قعوا ضحايا لاسباب كثيرة، العلاج ليس مستحيلاً، ولكنه قرار يتطلب الشجاعة والصبر، والشجاعة تبدأ بلحظة اعتراف واحدة: "ابني مدمن... وسأسعى جاهداً لعلاجه." وسوف نتحدث في مقال لاحق فيما لو كان الزوج(الاب) مدمنا..ماذا نفعل؟