نبض البلد - الطيبة لا تعني السذاجة ولكنها تحتاج وعيًا وحدودًا عميقين
ولاء فخري العطابي
سابقًا كنت أظن أن اللطف يُقابل باللطف، وأن النوايا الطيبة كافية لتُفتح بها القلوب وتُبنى بها العلاقات، لكن الواقع لا يسير دائمًا بهذا المنطق المثالي، فالحقيقة وبعد مُضي عدة سنوات ومع تجارب الحياة العملية التي نكتشفها تدريجيًا، وجميعها يتمحور أنَّ العالم لا يُعاملك كما أنت بل كما هو وفقًا لما يحمله داخله لا وفقًا لما تمنحه أنت.
حين نكون طيبين، نتصور أن الآخرين سيقابلوننا بالمثل نمنح الثقة دون تردد ونُحسن الظن تلقائيًا ونعتقد أن كلمة صادقة أو موقفًا نقيًا كافٍ ليزرع الاحترام في قلوب الآخرين، ولكن شيئًا فشيئًا تتراكم الخيبات وتنكشف الأقنعة وندرك أننا لا نعيش في عالم يُكافئ النقاء دائمًا.
أنا لا أكتب من برج عاجي، ولا أنقل الواقع من خلف مكتب بارد، أنا أعيش هذا الواقع أسمعه في صوت الأم التي خذلها القريبون، في حكاية الشاب الذي لم يُقدر اجتهاده، في دمعة امرأة أحسنت وظُلمت، وفي صمت رجل تعب من تقديم الخير دون مقابل؛ فالقلم لا يكتب وحده، بل ينبض بما نشعر به، ويرتجف حين تُظلم الطيبة وحين تتحول النوايا النقية إلى دروس قاسية.
في كل قصة أكتبها، أجدني أمام تكرار مؤلم لفكرة واحدة: الطيبة لا تكفي، حسن النية لا يضمن العدالة، التعامل النقي لا يردع النفوس المريضة، وهذا ليس دعوة لليأس، بل دعوة للتوازن، للتفكير، للفهم الحقيقي لمعنى أن تكون طيبًا دون أن تُؤذى، كريمًا دون أن تُستغل، نقيًا دون أن تكون غافلًا.
أحيانًا، نكتشف أن أفعال الآخرين لا تُشبه أفعالنا، وأن دوافعهم لا ترتقي لما نعتقد، فنتساءل: هل نحن الخطأ؟ هل يجب أن نتغير؟ والإجابة ليست بنعم أو لا، بل بأن نُعيد ترتيب المعادلة، فالطيبة لا تعني أن نفتح الأبواب دون حراسة، ولا أن نُهدي قلوبنا دون عقل، علينا أن نتعلم جميعُنا أن نُحب بوعي وأن نُعطي بحساب، وأن نحمي أنفسنا دون أن نفقد طُهرها.
التحدي الأكبر هو أن نظل نحن كما نحن تمامًا رغم كل شيء، أن نبقى كما نُحب أنفسنا أن نكون، دون أن نمكّن الآخرين من تشويه ذلك النقاء، ولكنه يكفي بأن نكون قد تعلمنا جيدًا أن لا نُسيء الظن، ولكن لا نُعطي الثقة مجانًا، أن لا نُطفئ نور قلوبنا ولكن لا نتركها وقودًا لمزاج الآخرين، فالطيبة لا تُفقد معناها حين تصبح واعية بل تزداد جمالًا وقيمة، وحسن النية لا يُصبح ضعفًا حين يُرافقه بصيرة، أما القلب، فلا بد أن يُربّى كما يُربّى العقل لا ليتوقف عن الحب بل ليُحسن اختيار من يستحقه.
نحن نكتب لأننا نشعر؛ نشعر لأننا نعيش بين الناس ومن الناس، نكتب عن وجعهم ووجعنا عن صدماتنا المشتركة عن حاجة هذا العالم للطيبة، ولكن أيضًا عن الحاجة لحمايتها، فواقعنا لا يرحم القلوب المفتوحة دائمًا ولا النوايا المعلنة دون درع؛ لذا، ليبقَ لطفك كما هو ولكن علّمه أن يختار توقيته، وجهته، وحدوده.