الرياضة.. معركة تتجاوز أرضية الملاعب إلى قضايا الكوكب الكبرى
الأمم المتحدة للبيئة: إما أن تكون الرياضة حليفًا في معركة المناخ أو إحدى خسائرها الكبرى
الأنباط – ميناس بني ياسين
لم يعد من ضروب الخيال العلمي إلغاء نسخة من كأس العالم، أو تأجيل نهائي أولمبي بسبب موجة حر أو فيضان. فهذه السيناريوهات باتت أقرب إلى الواقع مع تسارع التغيرات المناخية واشتداد الظواهر الجوية المتطرفة، بينما تقف الرياضة العالمية على حافة أزمة وجودية تهدد مستقبلها واستمراريتها.
وما كان يُعدّ استثناءً مناخيًا أصبح القاعدة الجديدة، حيث بطولات تتعطل، ملاعب تُخلى، رياضيون يواجهون ظروفًا بيئية قاسية، وجمهور يعايش تجربة رياضية مهددة بالأمطار أو البرق أو موجات الحر الشديدة.
أمثلة عديدة بدأت تترسخ في الذاكرة الرياضية العالمية، منها: تأجيل مباريات في دورة الألعاب الأولمبية الصيفية (باريس 2024)، كأس العالم للرجبي 2019 (اليابان)، دورة الألعاب الشتوية 2010 (فانكوفر)، وآخرها تأجيل بعض مباريات كأس العالم للأندية 2025 في الولايات المتحدة. وهي ليست مجرد وقائع عابرة، بل نُذر تحذيرية حقيقية لما قد يواجهه مونديال 2026، والألعاب الأولمبية المقبلة، وغيرها من الأحداث العالمية.
فالرياضة اليوم لم تعد بمنأى عن أزمات الكوكب. بل باتت في مرمى الأزمة المناخية: ضحية من جهة، ومحفز للتغيير من جهة أخرى. وهنا يكمن دور التخطيط المستدام والوعي البيئي؛ فإما أن تكون الرياضة حليفًا في المعركة، أو إحدى خسائرها الكبرى.
في هذا السياق، أجرت "الأنباط" مقابلة موسعة مع برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) لاستعراض التأثيرات المناخية على القطاع الرياضي، وفرص التحول نحو نماذج أكثر استدامة، لمعرفة ما إذا كانت الرياضة تملك القدرة على الصمود أمام طقس يزداد اضطرابًا؟ وهل تتحرك المؤسسات الرياضية بالسرعة الكافية لتبني استراتيجيات بيئية فعالة؟
تهديدات متعددة ومقاربة علمية شاملة
وتُقيّم UNEP تأثيرات تغير المناخ على الأحداث الرياضية الكبرى من خلال دراسات علمية ومقاربات متعددة القطاعات، إذ يهدد ارتفاع درجات الحرارة والظواهر الجوية المتطرفة، إلى جانب تدهور النظم البيئية، البنية التحتية للملاعب والمساحات الطبيعية التي تعتمد عليها الرياضات في الهواء الطلق.
وتشمل هذه التهديدات: فقدان الغابات، تآكل السواحل، شح المياه، إضافة إلى تحديات ترتبط بقطاعات النقل والطاقة والبنية التحتية، وهي جميعها مرتبطة بالفعاليات الرياضية الكبرى.
وقد أشار تقرير "فجوة الانبعاثات" لعام 2024 إلى أن قطاعي النقل والطاقة – وهما عنصران حاسمان في تنظيم البطولات – يُعدّان من أكبر مصادر الانبعاثات. وتشمل الأنشطة عالية البصمة الكربونية: السفر الدولي للرياضيين والجماهير، وتشغيل الملاعب والمنشآت بكثافة طاقية عالية.
مبادرات ومقاربات لحلول شاملة
لا يقتصر دور UNEP على التقييم، بل يشمل دعم التخطيط المقاوم للمناخ، وتقديم الإرشاد الفني، ونقل أفضل الممارسات البيئية. وتقود المنظمة مبادرات عالمية، من أبرزها مبادرة "الرياضة من أجل الطبيعة" (Sports for Nature) بالتعاون مع الاتحاد الدولي لحماية الطبيعة (IUCN)، اللجنة الأولمبية الدولية (IOC)، أمانة اتفاقية التنوع البيولوجي (CBD)، ومؤسسة دونا برتاريلي.
وتهدف المبادرة إلى تحفيز القطاع الرياضي لحماية واستعادة الطبيعة، وتقديم خطة عمل تلهم جميع الأطراف للعمل البيئي.
وتتضمن وثيقة المبادرة، الصادرة بعنوان "العمل من أجل الطبيعة: أقوى وسيلة هجومية ودفاعية للرياضة ضد أزمة المناخ", رؤى علمية توضح هشاشة الرياضة في مواجهة التغير المناخي، وتُبرز إمكانياتها في إحداث أثر إيجابي مستدام.
الرياضة كمنصة لتغيير السلوك والوعي العام
ويرى برنامج UNEP أن الرياضة تمتلك قدرة هائلة على رفع الوعي البيئي وتحفيز أنماط استهلاك أكثر استدامة. ومن خلال مبادرات مثل: "إطار العمل الرياضي من أجل المناخ" التابع لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (UNFCCC). و"الرياضة من أجل الطبيعة" ويُساعد البرنامج المؤسسات الرياضية على تقليل بصمتها الكربونية، ودمج الاستدامة في عملياتها، وتمكين الرياضيين ليكونوا سفراء للبيئة، وتعزيز المشاركة المجتمعية في حملات التوعية.
الإرث البيئي للبطولات الكبرى: من العبء إلى الفرصة
وفقًا لـ UNEP، فإن دمج الاعتبارات البيئية في كل مراحل تنظيم البطولات – من التخطيط إلى التنفيذ – يمكن أن يُحوّلها من مصدر ضرر إلى إرث إيجابي طويل الأمد.
ومن التدابير المقترحة أيضًا إنشاء ملاعب موفرة للطاقة أو بأسطح خضراء واعتماد أنظمة تبريد طبيعية وحماية الأنظمة البيئية المحيطة بالملاعب وشراء مواد غذائية محلية وتقليل النفايات والتغليف وتعويض الانبعاثات من خلال حلول قائمة على الطبيعة (مثل إعادة التشجير) والتوعية الجماهيرية أثناء وبعد الحدث.
ممارسات ملهمة وتجارب قابلة للتكرار
ومن الأمثلة الملموسة على مبادرات بيئية رياضية، مشروع "باريس 2024": استثمار بقيمة 1.5 مليار يورو لتنظيف نهر السين ليصبح صالحًا للسباحة لأول مرة منذ 50 عامًا. والاتحاد الدولي للرجبي: خطة عمل بيئية من 10 نقاط تطبّق حاليًا على أندية في أوروبا والمحيط الهادئ.
كما يدعم UNEP جهودًا مستمرة لتثقيف الجمهور حول قضايا مثل السفر منخفض الأثر، ملاعب بلا بلاستيك، استهلاك الطعام المحلي، وإدارة النفايات بطرق مسؤولة.
خارطة طريق لمستقبل مستدام رياضيًا
وضمن التوصيات التي تعكف UNEP على صياغتها ونشرها قريبًا في إطار مبادرة "الرياضة من أجل الطبيعة"، وهناك خطوات عملية للدول والاتحادات الرياضية تشمل: تحديد خط أساس للانبعاثات، ثم وضع أهداف علمية لخفضها. والاعتماد على الطاقة المتجددة، وتطوير النقل المستدام. وتصميم منشآت مستدامة للاستخدام طويل الأمد. وتفادي البناء في مناطق حساسة بيئيًا، ودعم ترميم النظم البيئية. وإشراك الجماهير والمجتمعات المحلية في التوعية. ورصد الأداء البيئي والإبلاغ عنه بشفافية. إضافة إلى الامتثال للأطر العالمية، والتعاون مع منظمات البيئة الدولية.