لماذا تأخرت الحكومات في حسم ملف الجماعة؟

نبض البلد -

حاتم النعيمات

مجددًا تكشف التحقيقات المستمرة عن خبايا أنشطة جماعة الإخوان المسلمين التي مارستها على مدار سنوات وعقود، حيث أعلنت السلطات المختصة عن شبكات مالية معقدة وسرية تديرها الجماعة المحظورة رغم صدور سلسلة من التنبيهات والمطالبات بتصويب الأوضاع (منذ الخمسينيات) وآخرها صدور قرار قضائي قطعي عن محمكة التمييز يقضي بحل الجماعة واعتبارها غير موجودة عام 2020. بتفصيل أكثر، فقد أظهرت التحقيقات أن الجماعة تملك بنية مالية ضخمة تتغذى على التبرعات، والاستثمارات، والاشتراكات، جرى استخدامها لتمويل أنشطة سياسية وحزبية بغلاف دعوي خيري.

التحقيقات تحدثت عمّا يتجاوز الـ 30 مليون دينار تم جمعها خلال السنوات الثماني الأخيرة فقط من قبل أُسر الجماعة والمؤسسات التابعة لها، والأسرة هي وحدة تنظيمية في هيكل التنظيم. هذه الأموال لم تكن يصرف منها في العمل الخيري سوى الجزء الضئيل وليس كما تزعم الجماعة في خطابها العلني الاستعطافي، فعلى سبيل المثال، أظهرت التحقيقات حصة غزة المنكوبة من التبرعات لم تزيد عن 1% أي ما مقداره (413 الف دينار فقط) وهو المبلغ الذي وصل إلى الهيئة الخيرية الهاشمية (الجهة الرسمية المسؤولة عن نقل المساعدات إلى قطاع غزة)، في حين ظل مصير بقية الأموال مجهولًا في وقتها. وفي نفس السياق فقد تم الكشف عن أن الجماعة المحظورة استخدمت هذه المبالغ في دعم "أحد الأحزاب"، ودفع رواتب شخصيات سياسية محسوبة عليها، وتمويل حملات إعلامية تتستر أحيانًا بقناع المدنية أو الأعمال الخيرية. كما أظهرت التحقيقات وجود تحويلات مالية مشبوهة من داخل المملكة إلى الخارج وبطرق متعددة.

وقد يتساءل البعض عن تغاضي الحكومات طوال عقود عن هذا النشاط الخطير، وعن توقيت التحرك ضد الجماعة وأنشطتها، وهذا سؤال مهم ودقيق ومشروع بالمناسبة، وسأحاول الإجابة عليه بشكل مباشر.

نعم الحكومات المتعاقبة أخطأت في تقدير خطر الجماعة عندما تعاملت معها كجزء طبيعي من الخارطة السياسية دون اكتراث لقدرتها على تكسير علاقة المواطن مع دولته ولا أدراك لفارق القدرات بين هذه الجماعة وبين بقية الأحزاب والتيارات السياسية، فالأحزاب الأخرى البرامجية القادرة على صناعة خطاب نقدي موضوعي لا تملك أذرعًا مالية ولا منابر مجانية ولا عاطفة دينية ولا مقدرة على خلق المظلميات. وقد تناول الكثيرون طوال سنوات (وكاتب هذه السطور واحدٌ منهم) خطورة ترك هذا النشاط على كل الصعد؛ الأمنية منها والسياسية والفكرية وتأثيرها على علاقة المواطنين مع دولتهم.

ولأكون موضوعيًا، فالنظر للموضوع من زاوية أخرى يُظهر أن هناك مجموعة من الظروف المحلية والإقليمية والدولية التي عجّلت في فتح ملف الجماعة كان أقربها زمنيًا هو سلوكها في التعامل مع ملف العدوان على غزة، حيث ركزت كوادرها على توجيه خطاب التخوين والاتهامية إلى الدولة الأردنية. أما الظروف البعيدة زمنيًا والتي تراكمت عبر السنوات فقد تمثلت في سقوط رأس التنظيم في مصر عام 2013، وما تبع ذلك من منع لنشاطها في الخليج العربي -الذي كان يُشكل أساس شبكة التبرعات التي أدارها التنظيم الدولي- وهذا أدى لاحقًا إلى سقوطهم في تونس وسوريا وليبيا والسودان. وللتذكير، فهذه الاخفاقات كانت بالرغم من الدعم غير مسبوق الذي قدمته إدارة أوباما على أثر خطابه الشهير في جامعة القاهرة عام 2009. الإنهيار الكبير بدأ عندما تراجع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن توظيف الجماعة كأداة لتوسيع النفوذ التركي في المنطقة على وقع ما سمي بالربيع العربي. مجموع هذه الظروف والأحداث أدى إلى ضعف الجماعة ماليًا وتنظيميًا.

بصراحة، لم يكن من السهل على أي مسؤول حكومي أردني أن يواجه الجماعة وهي في أوج قوتها الدولية والمحلية، أقصد قبل أن تدخل في حالة الضعف المذكورة أعلاه؛ فالأذرع الإعلامية والجيوش الإلكترونية والمنابر الإجتماعية كانت قوة ضاربة تستطيع من خلالها تشويه سمعة أي مسؤول أو سياسي أو مثقف بسهولة ولدى جميع طبقات المجتمع بمجرد تغليف الحملات بالعاطفة الدينية أو المظلمية المعروفة. ولا داعي لذكر الأمثلة فهي كثيرة ومعروفة.

وللتاريخ، فقد كانت الدولة متساهلة جدًا مع الجماعة حيث طلبت منها في عدة مناسبات تصويب أوضاعها القانونية كجمعية، واستوعبتها رغم الرد المستفز الذي جاء على لسان أحد قياداتها عندما قال إن "ترخيص الجماعة شعبي" في رسالة استعلاء واضحة على القانون والدولة.

الكرة اليوم في ملعب الأحزاب والتيارات السياسية لتستفيد من الخارطة السياسية "الجديدة" التي ستتكون في قادم الوقت، فلا تنافس غير شريف بين هذه الأحزاب يسببه التمويل الخارجي والامتداد الدولي لأي منها بخروج الإخوان، ولا ارتباطات خارجية ترهن مصير الدولة لأي كيان خارجي.