ازدواجية الخطاب العالمي بين زخم قمم المناخ وصخب السلاح

نبض البلد -

قادة مؤتمرات المناخ هم أنفسهم قادة الحروب والصراعات

عماد سعد: إذا كان النفط ما أشعل حروب القرن العشرين فإن الماء والغذاء فتيل حروب القرن الحالي
شوشان: العدالة المناخية رهينة مصالح الكبار وصوت الدول الضعيفة مغيّب عمدًا

الأنباط – ميناس بني ياسين

رغم الزخم العالمي اللافت في تنظيم قمم ومؤتمرات المناخ خلال العام الحالي، من "بون” في يونيو وصولًا إلى القمة المرتقبة في "باكو” نهاية 2025، فإن الواقع البيئي والسياسي يكشف عن فجوة متزايدة بين الخطاب والتنفيذ. فبرغم تكاثر المنصات والمبادرات، لا تزال هذه الفعاليات عاجزة عن إحداث التحوّل المطلوب في وجه أزمة تهدد مصير الكوكب.
في الوقت الذي تُرفع فيه شعارات "الإنقاذ المناخي” من على منصات دولية أنيقة، تشتعل على الأرض نيران الحروب والصراعات، من غزة إلى أوكرانيا والسودان، وتُدمّر المنظومات البيئية بفعل القصف والنزوح، فيما تُعلَّق التزامات الاستدامة لصالح ميزانيات التسلح والتوسّع العسكري.
المفارقة أن بعض القادة الذين يُلقون خطبًا مؤثرة عن "أجيال المستقبل” على منابر المناخ، هم أنفسهم من يقودون الصراعات الجيوسياسية، ويموّلون صفقات السلاح، ويوسّعون من رقعة التوتر النووي، الأمر الذي دفع خبراء ومراقبين للتساؤل: هل تحوّلت مؤتمرات المناخ إلى واجهة دبلوماسية تخفي نفاقًا سياسيًا؟ وهل يمكن إنقاذ الكوكب وسط ازدواجية خطابية تُغلب المصالح على الحقيقة البيئية؟
الواقع يُفصح بوضوح، انبعاثات في ارتفاع، تمويل بيئي في تراجع، وحكومات تُطيح بالاستدامة كلما اندلعت شرارة نزاع. وفي ظل هذا المشهد، تتعزز قناعة بأن المؤتمرات وحدها لم تعد كافية، ما لم تُترجم إلى إرادة سياسية صادقة، وقرارات تتحدى منظومات المصالح التي تُمسك بخيوط القرار المناخي العالمي.

البيئة ضحية النفاق السياسي وغسيل السمعة الدولي
أكد خبير الاستدامة والتغير المناخي، رئيس شبكة بيئة أبوظبي، الدكتور عماد سعد، في حديثه لـ”الأنباط”، أن البيئة لا تزال تُعامل كقضية رمزية لا كأولوية سيادية في أجندات صناع القرار حول العالم. وقال: "زعماء العالم يعتلون منصات مؤتمرات المناخ ليتحدثوا عن التوافق الأخلاقي، لكنهم في الواقع يُدارون بمنطق المصالح الاستراتيجية؛ فالحرب والتسليح يرتبطان بالهيمنة والسيادة، بينما يُنظر إلى المناخ كتحدٍّ ناعم يمكن تأجيله أو تداوله بلا التزام ملزم”.
وأشار سعد إلى أن المفارقة تكمن في أن القادة الذين يقدّمون أنفسهم كحماة للكوكب والمتحدثين باسم "أجيال المستقبل”، هم أنفسهم من يقرّرون شن الحروب، ويموّلون التسلّح، ويتجاهلون الالتزامات البيئية، مما يكشف عن تناقض صارخ بين الخطاب البيئي والسلوك الجيوسياسي.

"الغسيل الأخضر السياسي”.. تجميل السمعة لا أكثر
وأوضح سعد أن قضية المناخ تحوّلت إلى أداة سياسية تُستخدم لتجميل صورة بعض الأنظمة، فيما يُعرف بـ”الغسيل الأخضر السياسي” (Greenwashing Diplomacy)، حيث تُستغل المؤتمرات والمبادرات البيئية كمجرد واجهات للعلاقات العامة، لا كمنصات لإصلاح حقيقي. وأضاف: "المشاركة في قمم المناخ أو التبرع لصناديقها لا يعني التزامًا فعليًا، بل يُستخدم كوسيلة لتعزيز النفوذ السياسي، دون إحداث أي تغيير هيكلي في السياسات البيئية”.

غياب الإرادة والردع.. والعقبة الأهم سياسية
وفي معرض رده عن أسباب عجز المؤتمرات عن التحوّل إلى التزام قانوني ملزم، قال سعد إن العائق الأساسي يتمثل في غياب الإرادة السياسية العالمية وآليات الردع الفعالة. "اتفاقية باريس، على سبيل المثال، غير ملزمة قانونيًا، ولا توجد جهة تفرض تنفيذ بنودها. وحتى آليات تمويل الانتقال الأخضر تُخضع لمساومات سياسية وتجارية”.
وأشار إلى أن مرور أكثر من 30 عامًا على أول مؤتمر مناخي (قمة ريو 1992) لم يكن كافيًا لتحويل التعهدات إلى قرارات حقيقية، بسبب تعقيد المشهد الذي تهيمن عليه شبكات مصالح ولوبيات اقتصادية، إضافة إلى غياب العدالة المناخية، وافتقار العالم لهيئة رقابية مستقلة.

الحروب تعيد ترتيب الأولويات وتُجهز على البيئة
وفي ما يتعلق بتأثير النزاعات المسلحة على جهود المناخ، قال سعد إن الحروب تعيد تشكيل أولويات الدول، حيث تتحول الميزانيات من الطاقة النظيفة إلى التسليح، وتُعطَّل البنى التحتية، وتُفاقم الانبعاثات الناجمة عن القصف والنزوح والحرائق، مثلما حدث في أوكرانيا، حيث عاد الاتحاد الأوروبي إلى الفحم الحجري رغم تعهداته السابقة.
وأوضح أن الدول، حين تدخل في صراع، تضع قضايا المناخ جانبًا لصالح تعزيز القدرات الدفاعية، وتُعلّق التشريعات البيئية بذريعة "الضرورة الوطنية”، فيما يُحوَّل التمويل المخصص للمناخ إلى ميزانيات الجيوش والدفاع السيبراني.

النزاعات وجه عنيف لفشل النظام العالمي
ورأى سعد أن الصراعات المسلحة ليست تجاهلًا عابرًا لقضايا البيئة، بل تمثّل الوجه العنيف لفشل النظام الدولي في تحقيق العدالة البيئية والاجتماعية. وأضاف: "البيئة لا تُدمَّر فقط بالقصف، بل بالإقصاء والاستغلال، وبالاستعمار المناخي الجديد، حيث تُلقى تبعات التغير المناخي على كاهل الدول الفقيرة دون دعم حقيقي”.

تغير المناخ وقود حروب القرن الحادي والعشرين
وأكد أن هناك ربطًا علميًا متزايدًا بين تصاعد الأزمات البيئية وتفجّر النزاعات الجيوسياسية، خاصة في المناطق الهشة. ولفت إلى تحذيرات أممية متكررة بشأن دور أزمات المياه والجفاف وفقدان الأراضي الزراعية في إذكاء التوترات، مشيرًا إلى أمثلة كالنزاع على مياه النيل، وتراجع الزراعة في الهلال الخصيب، والهجرة المناخية عبر المتوسط.
وقال سعد: "التغير المناخي لا يُنتج العنف مباشرة، لكنه يسرّع الانفجارات الكامنة. وإذا كان النفط قد أشعل حروب القرن العشرين، فإن الماء والغذاء والمناخ سيكونون فتيل حروب القرن الحادي والعشرين”.

فرصة لقلب المعادلة بشرط
وختم سعد بالتأكيد على أن استمرار تراجع قضايا المناخ في مواجهة أزمات السياسة والصراعات ليس قدرًا محتومًا، "بل يمكن قلب المعادلة عبر إعادة تعريف الأمن ليشمل البُعد البيئي، ودمج المجتمع المدني والعلوم والقطاع الخاص في صنع القرار المناخي بدل تركه بيد الدول فقط”.
وأشار إلى أن الأمل الأكبر يكمن في قوة المجتمعات المحلية والمدن والمبادرات الشبابية التي بدأت تصوغ نماذج تحوّل خضراء خارج أروقة المؤتمرات الرسمية، مؤكدًا أن التغيير ممكن "إذا تغيرت البُنى التي تتحكم بالقرار المناخي عالميًا”.

العدالة المناخية رهينة مصالح الكبار
في السياق ذاته، أكد خبير التغير المناخي ورئيس جمعية "البيئة والسلام” عمر شوشان لـ”الأنباط” أن العالم يشهد في السنوات الأخيرة موجة غير مسبوقة من مؤتمرات المناخ، تتنقل بين العواصم من غلاسكو إلى شرم الشيخ، ومن دبي إلى باكو، في مشهد يثير تساؤلات جدية: هل نحن أمام جهود دولية حقيقية لإنقاذ الكوكب؟ أم أمام استعراضات دبلوماسية تعيد إنتاج الخطاب البيئي دون التقدم خطوة واحدة نحو التنفيذ؟

زخم بلا نتائج.. والمؤشرات لا تكذب
وأشار شوشان إلى أن هذا الحراك المكثف، ورغم ما يصاحبه من زخم إعلامي وسياسي، لم يسفر عن نتائج ملموسة على أرض الواقع؛ إذ لا تزال الانبعاثات الكربونية في ارتفاع، بينما تواصل الدول الصناعية الكبرى التهرب من التزاماتها التمويلية تجاه الدول النامية.
وأضاف: "من المفارقات الصادمة أن الدول التي تتصدر مشهد مؤتمرات المناخ – مثل الولايات المتحدة، والصين، ودول الاتحاد الأوروبي – هي نفسها أكبر المساهمين في الانبعاثات العالمية، بل وتشترك في النزاعات المسلحة التي تفاقم الأزمات البيئية والإنسانية على حد سواء”.

الأجندة البيئية في قبضة النفوذ السياسي
وأوضح شوشان أن هذا التناقض يكشف عن جانب عميق من "تسييس ملف المناخ”، إذ تحولت الأجندة البيئية إلى واجهة سياسية توظفها القوى الكبرى لخدمة مصالحها الاستراتيجية، بينما تدفع الدول الفقيرة ثمن السياسات المناخية الأحفورية التي لم تكن طرفًا في صناعتها. ومع ذلك، يُغيّب صوت هذه الدول في غرف التفاوض، وغالبًا ما تُستثنى من دوائر التأثير وصنع القرار.

الصراعات المسلحة.. مُسرّع كارثي لأزمة المناخ
وفي ما يتعلق بأثر النزاعات المسلحة، شدد شوشان على أن الحروب، من غزة إلى أوكرانيا والسودان، لا تقتل البشر فقط، بل تدمّر الموارد البيئية، وتزيد من تلوث الهواء والمياه، وتُبدّد الجهود الدولية المناخية لصالح أجندات طارئة.
ولفت إلى أن دراسات صادرة عن منظمات متخصصة، مثل Conflict and Environment Observatory، تؤكد أن النزاعات تؤدي إلى تسريع آثار التغير المناخي، في ظل غياب شبه تام للمساءلة الدولية عن هذا الدمار البيئي.

مؤتمرات بلا تنفيذ.. وتمثيل غير عادل
وأشار شوشان إلى أن مؤتمرات المناخ، لكي تكون أكثر واقعية وفعالية، يجب أن تُربط بخطط تنفيذية واضحة، وآليات مساءلة شفافة، وتمويل عادل يراعي الدول الأكثر هشاشة. كما دعا إلى "إعادة هيكلة الحوكمة المناخية العالمية” بشكل يضمن تمثيلًا حقيقيًا للدول النامية والناشطين البيئيين، لا أن تُترك طاولات التفاوض لهيمنة ممثلي شركات النفط والغاز أو حكومات الدول الصناعية الكبرى.

العدالة المناخية.. هل تظل رهينة؟
واختتم شوشان حديثه بالتشديد على ضرورة فك الارتباط بين مصالح الاقتصاد الأحفوري وصناعة القرار المناخي، معتبرًا أن العالم لا يحتاج إلى مزيد من المؤتمرات، بل إلى إرادة سياسية شجاعة تعترف بمبدأ العدالة المناخية، وتتحمل مسؤولية الكلفة البيئية التي دفعتها الشعوب المهمشة.
وتساءل في ختام حديثه "هل ستبقى العدالة المناخية رهينة أجندات القوى الكبرى؟ أم سنشهد تحولًا حقيقيًا يعيد للمناخ معناه، ويُخرجه من حسابات التوازنات السياسية؟”