الذكاء الاصطناعي والتفرقة الرقمية: هل تُولد عنصرية جديدة في عصر التقنية؟

نبض البلد -
حسام الحوراني خبير الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي
في العصر الذي باتت فيه الآلات تتعلّم، والبرمجيات تُفكّر، والبيانات تقود، يقف الإنسان مندهشًا أمام هذا الطوفان الرقمي المتسارع، حائرًا بين الانبهار والقلق. الذكاء الاصطناعي، الذي طالما بُشّر به كمنقذ للبشرية ومسرّع للتقدم، صار يطرح سؤالًا أكثر عمقًا: هل سنكون جميعًا جزءًا من هذا المستقبل، أم أن هناك من سيتخلّف عن الركب؟ بل، هل نحن بصدد ولادة شكل جديد من العنصرية الرقمية؟
هذه ليست مبالغة. فكما كانت الثروة والمكانة الاجتماعية والتعليم تاريخيًا أدوات لتقسيم الناس إلى طبقات، أصبح "الوصول إلى التكنولوجيا" و"التحكم في الخوارزميات" اليوم أداة تفريق جديدة، لكنها أكثر نعومة وخفاءً. نحن نعيش الآن بداية عصر تُمنح فيه فرص النجاح لمن يمتلك أدوات الذكاء الاصطناعي، بينما يُترك الآخرون خارج الحلبة، غير مرئيين، بلا صوت في عالم يُدار بالأرقام.
فكّر قليلًا: من يمتلك القدرة على فهم الخوارزميات، استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، تحليل البيانات الضخمة، ودمج التقنية في حياته اليومية، لديه ميزة هائلة. ميزة تُمكّنه من الحصول على وظائف أفضل، اتخاذ قرارات أسرع، فهم أعمق للعالم، بل وحتى التأثير في الرأي العام. بينما يقف على الطرف الآخر من لا يمتلك الحاسوب، أو لا يُحسن استخدامه، أو لا يملك حتى اتصالًا موثوقًا بالإنترنت.
هنا تولد الفجوة الرقمية… لكنها لم تعد فجوة بين غني وفقير فقط، بل بين مَن يتحدث لغة الآلات، ومَن لا يفهم إلا لغة البشر. بين من يعرف كيف يُوجّه الذكاء الاصطناعي، ومن يصبح ضحيةً له.
الأسوأ من ذلك، أن الذكاء الاصطناعي نفسه قد يُعيد إنتاج التحيّزات البشرية، ولكن على نطاق أوسع وأشدّ خطورة. كيف؟ ببساطة، لأن هذه الأنظمة تتعلّم من بياناتنا… وإن كانت بياناتنا مملوءة بأحكام مسبقة، وتمييزات عنصرية، وعدم مساواة، فإن الخوارزميات ستُعيد تدوير كل هذا، ولكن بوجه علمي و"محايد" زائف.
فلنتأمل، مثلًا، في خوارزميات التوظيف التي تفرز السِيَر الذاتية بناء على نماذج تعلمت من بيانات قديمة. إن كانت هذه البيانات تحمل تحيّزًا ضد المرأة، أو ضد أشخاص من خلفيات اجتماعية معينة، فإن الخوارزمية لن تكتشف هذا الظلم… بل ستُكرّسه!
ولنتأمل في استخدام الذكاء الاصطناعي في الأمن أو الائتمان أو التعليم… كيف نضمن أن لا يكون "أكثر قسوة" على من لا يشبه الأغلبية؟ من سيُحاسب خوارزمية ظلمت، أو تجاهلت، أو همّشت؟
لهذا، فإن الشباب العربي اليوم، وفي كل العالم، يجب أن يستيقظوا لا فقط لتعلّم الذكاء الاصطناعي، بل لفهمه والتحكم فيه. لا يكفي أن تكون مستهلكًا لهذه التكنولوجيا، بل يجب أن تكون جزءًا من صُنّاعها. لا يكفي أن تبتهج بخدمة ذكية، بل اسأل دائمًا: من صمّمها؟ بأي بيانات؟ ولصالح من تعمل؟
إنها مسؤولية كبرى، لكنها أيضًا فرصة عظيمة. فنحن لا نعيش زمن الثورة الصناعية الأولى أو الثانية، بل زمن الثورة الرقمية، حيث لا تحتاج إلى مصانع ضخمة لتُبدع، بل إلى فكرة، ولابتوب، وربما مقهى هادئ. العالم يفتح أبوابه للعقول، وليس للجنسيات. للابتكار، وليس للنسب.
لكن الأهم، أن تُبقي إنسانيتك حاضرة. لأن التفرقة الرقمية ليست قدرًا، بل خيارًا. وإذا اخترنا أن نستخدم الذكاء الاصطناعي لبناء عالم أكثر عدلًا، وأكثر شمولًا، فإننا نستطيع. نعم، نستطيع أن نُدرّب الخوارزميات على العدالة، ونُعيد هندسة التقنية لتخدم الإنسان لا أن تُقصيه.
لا تخف من الذكاء الاصطناعي ولا تسلّم له زمام عقلك، بل قُدْه إلى حيث تريد أنت. ولا تسمح بأن تكون ضحية تفرقة رقمية جديدة، بل كن جسرًا للعبور نحو عالم تُحترم فيه إنسانية الجميع، أيًا كانت خلفيتهم، أو قدراتهم، أو لغتهم.
لأن العنصرية قد تتبدل وجوهها… لكننا نستطيع أن نكسر دوائرها، حين نستخدم أقوى أدوات العصر… بقلب واعٍ، وعقل ناقد، وروح لا تُقصي أحدًا .