الحاجة إلى مراجعة النظام العربي

نبض البلد -
يوم الثاني والعشرين من شهر مارس/ آذار من هذا العام 2025، حلّت المناسبة الخامسة والسبعون على توقيع ميثاق جامعة الدول العربية، وبالكاد تذكّر أحد أن هذا اليوبيل الماسيّ للجامعة يستحق أن يُحتفى به، وأن يكون مناسبة طنانة للاحتفال بإنجازات للوطن العربي، وبخطوات اتُّخذت نحو تعزيز وحدته، لكنّ هذه الأماني لم تتحقق على الإطلاق، بل اتسعت الشقة بين الدول العربية، وزادت فرقتهم، وابتعدوا عن مفهوم "الوطن العربي"، الذي كان هدف الجامعة عند إنشائها. وتبلغ مساحة الدول العربية حوالى 13.3 مليون كيلومتر مربع بما في ذلك الأراضي المحتلة، لكننا نعلم أن فلسطين محتلة ومحاصرة، وأراضي واسعةً من سورية وأراضيَ أخرى في لبنان كذلك.

ولربما تبلغ مساحة كل هذه الأراضي المحتلة من إسرائيل ما يقارب 80 ألف كيلومتر مربع، التي تشمل الأراضي التي احتلت هذا العام في سورية ولبنان، بالإضافة إلى الجولان والضفة الغربية وبعض الأراضي في قطاع غزة، وهذا يجعل مساحة إسرائيل وما تحتلّه من أراضٍ في الدول العربية المجاورة يفوق عشرة آلاف كيلومتر مربع.

وإذا أضفنا إلى ذلك ما اقتُطع من أراضي السودان ليشكل دولة جنوب السودان البالغة مساحتها 644.3 ألف كيلومتر مربع، عندها تكون مساحة الوطن العربي قد تراجعت بمقدار 745 ألف كيلومتر مربع، ولولا اتفاقات السّلام التي وُقّعت مع مصر التي استعادت شبه جزيرة سيناء من إسرائيل، والأراضي الأردنية صغيرة المساحة التي استُعيدت من إسرائيل أيضاً لكان مجموع الأراضي التي خسرها الوطن العربي منذ إنشاء الجامعة العربية حوالى 805 آلاف كيلومتر مربع أو ما يساوي (5.6%) من كامل مساحته.

أما الناتج المحلي الإجمالي للعالم العربي فيبلغ وفق التقديرات حوالى 3.58 تريليونات دولار، بينما يبلغ معدل دخل الفرد 8.453 دولاراً للشخص الواحد، ولكن دول مجلس التعاون الخليجي تحظى بحوالى 2.31 تريليون دولار أو ما يقارب 42 ألف دولار للفرد، وهذا الرقم يتراوح بين 71.6 ألف دولار في قطر، و20.6 ألف دولار في سلطنة عُمان، وهكذا نرى أن تركيز الدخل يقع ضمن مجموعة دول الخليج التي لا يشكل سكانها سوى 58 مليون نسمة أو حوالى 11% من سكان الوطن العربي، لكنهم يحظون بما نسبته 64% من مجموع الناتج المحلي الإجمالي العربي كلّه.

ومن الواضح الآن أن نصيب دول مجلس التعاون من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي الكلي قد مال منذ العام 1945 إلى الزيادة بخطى صغيرة، لكن الأمر كلّه بدأ يتغير بعد هزة النفط في نهاية العام 1973، واستمر في تصاعد مستمر حتى الآن. وقد تغنينا كثيراً خاصة بعد فورة أسعار الوقود الأحفوري عام 1973-1974 بأننا سوف نجعل من السودان سلّة الغذاء العربي لما اشتملت عليه من وفرة الأراضي الخصبة الواسعة ومياه النيل والمياه الجوفية. واستؤجرت أراضٍ في السودان، لكنّ هذه المشروعات لم تفلح.

والماء الذي نحن في أمس الحاجة إليه قد استولى عليه الواقعون في أعالي النهر، وتقع كثير من الدول العربية عند مصبّات الأنهر الأساسية مثل الأردن وفلسطين في نهاية نهر الأردن وعند مصبه في البحر الميت.

والعراق وسورية في نهاية نهر دجلة والفرات حين بنت تركيا سد أتاتورك العظيم وأخذت معظم المياه، ولو مررتَ ببغداد لحزنت حزناً شديداً على منظر الفرات الذي طالما تغنى به الشعراء، فهو لا يبدو أكثر من بركة سطحية تصلح سكناً للضفادع. وكذلك الحال مع مصر والسودان اللتين تقعان في نهاية مجرى النيل قبل أن يصبّ في البحر المتوسط، وكم من حرب خضناها أو كدنا نخوضها من أجل الماء ولكن جيراننا في أعالي الأنهر لم يُبالوا بنا واستمر العمل على السدود وانتهى الموضوع دون حراك عربي.

وفي ظل الجامعة العربية أنشأنا تحالفات ثنائية ومتعدّدة الأطراف، لكن سقطت كلّها في نهاية الأمر، أو بقيت عرجاء تحقق الحدّ الأدنى من التنسيق والتعاون. وخذ على ذلك مثلاً الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسورية 1958 إلى 1961)، والاتحاد العربي الهاشمي الذي ضمّ العراق والأردن ولم يدُم سوى خمسة أشهر، وانتهى في 14 تموز/ يوليو من العام 1958 بانقلاب دموي في العراق.

وقِسْ على ذلك مجلس التعاون العربي، ومجلس التعاون لدول شمال أفريقيا، وقبلهما مجلس التعاون الخليجي وهو الوحيد الذي بقي حتى الآن، وإن لم يحقّق نجاحاً سوى في مجال الأمن والهجرة والتأشيرات، ولكنّه فشل في إصدار عملة موحدة أو منطقة جمركية موحدة بالكامل، ومع ذلك تبقى أنجح تجربة تعاون عربية.

وفشل النظام العربي أيضاً في حل كثير من الأزمات بين الدول العربية مثل الخلاف بين النظامَين البعثيَين في العراق وسورية حتى توارى النظامان، وفشلت الجامعة في رأب الصدع بين المغرب والجزائر حول الصحراء وما تزال هذه مشكلة حادة، ورأينا الصومال بلد المراعي الشاسعة تتحول إلى ميدان قتال وبؤرة فقر وبؤس شديد ولم نحرك ساكناً، وقِسْ على ذلك من أمثلة لو أردنا أن نتابعها لأصابنا اليأس والإحباط، لكن يجب أن نتساءل أولاً عن الوضع المؤسّسي لكثير من المؤسّسات العربية المشتركة وأهمها الجامعة العربية؛ صحيحٌ أن اختيار موقع الجامعة في مدينة القاهرة هو الخيار الصحيح، لكن أعتقد أنه آن الأوان ألّا تجمع مصر بين الموقع ومنصب الأمين العام.

وهناك من العرب من يشتكي، ولو سراً، أن الجامعة صارت أقرب إلى دائرة في وزارة الخارجية المصرية، وهذا كلام سمعته بأُذُني، وقد أتيحت للعرب فرصة للفصل بين الموقع ومنصب الأمين العام عام 1979 حين انتقلت الجامعة إلى تونس، لكن الأمر لم يحصل علماً أن الشاذلي القليبي أدى دوراً جيداً تحت الظروف التي مرّت بها الجامعة آنذاك.

وكذلك لا بدّ لنا من إجراء دراسات متعمقة ومحايدة على أداء المؤسسات العربية الهامة مثل منظمة العمل العربية، ومنظمة التربية والثقافة والعلوم، والمجلس الاقتصادي الاجتماعي، ونعيد تعريف وظائف هذه المؤسّسات على نحوٍ صحيح يتناسب مع متطلبات التنمية العربية في السنوات القادمة، وهنا أريد أن أعرّج بالبحث على مؤسّسات الصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية (الكويت هي المقر)، وصندوق النقد العربي (أبوظبي)، والمنظمة العربية لضمان الاستثمار في الكويت.

ويجب أن يشكر العرب عبد اللطيف الحمد الذي أدار لسنوات طويلة وما يزال الصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، لكن هذا الرجل الحصيف قد بلغ من العمر 87 عاماً والأيام التي شهدت تفوق الصندوق بإدارته قد بدأت بالتراجع، وتكاد تمضي لا بسببه، بل بسبب ما تعاني منه كثير من الدول العربية التي إمّا لم تستفد من قروض الصندوق ومساهماته على النّحو الصحيح، أو أنها قصرت في سداد التزاماتها، ولكن أرى أن يُعاد النظر في النظام الداخلي للصندوق وتقويته، وأن يبقى مركزه في الكويت، ولكن رئيسه الجديد يجب أن يكون غير كويتي.

أما صندوق النقد العربي فإنه عانى من شبهة فساد عند إنشائه واستمرت تعرقل مسيرته، وأظن أنّ الصندوق بحاجة إلى مراجعة شاملة، لأن ما قام به من دعم لتحقيق الاستقرار النقدي وترتيب نظام مدفوعات عربي، وخلق وحدة حساب نقدية عربية قد فشل في تحقيق أيٍّ من هذه الأهداف، أو حتى الاقتراب منها.

آن الأوان لكي يصبح الصندوقان مؤسّستَين قادرتَين على الدفاع عن الدول العربية، خاصة التي تدخل في مفاوضات مع المؤسستَين الدوليتَين النظيرتَين وهما؛ البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وأداء المؤسّستَين العربيتَين لدوريهما سيعزّز من القوة التفاوضية للدول العربية، ويجعلها شريكة في أي ترتيبات دولية قادمة من أجل خلق نظم نقدية جديدة، أو في اختيار الأساليب الأقل ألماً وأكثر نجاعة لإعادة البناء وإعادة الهيكلة في الاقتصادات العربية.

مراجعة النظام العربي ومؤسّساته وترتيباته المختلفة صارت أمراً ضرورياً إذا أراد العرب إعادة تفعيل دورهم الذي تألق في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وعندما نبدأ في الإعداد لهذه المراجعات فيجب ألّا يُفهم من أن هذا الإصلاح هو استهداف موجّه ضد دولة عربية أو ضدّ شخص معيّن، بل يجب أن يفهم أنّ هذا السعي يقصدُ تحسينَ العلاقات العربية وتنشيطها وجعلها أكثر نفعاً وإيجابية في تحسين أوضاع الناس.

ولعلّ مؤتمر القمة العربية القادم في بغداد هو مناسبة لإثارة هذا الموضوع، رغم أن الملفات الاقتصادية ستكون معقدة ومكلفة مثل إعادة الإعمار، وتعزيز التبادل التجاري، وتشبيك الاقتصاد العربي في الاقتصاد الجديد الذي سيتناول قريباً الأنظمة المالية والنقدية والجمركية والتجارية وشبكة التزويد العالمية، وبناء المشروعات الكبرى في مجال بُناه التحتية، والاستثمار في المعادن والمواد الخام الأساسية.

والآن من يعلق الجرس؟