رغيف الخبز الأردني في غزة: تضامن حي في وجه الموت

نبض البلد -
خلدون خالد الشقران


في عالمٍ تُهيمن عليه الصور القاتمة من غزة: الدمار، الجوع، النزوح، والمجازر… يخرج مشهد بسيط لكنه بالغ التأثير: شاحنة أردنية تدخل القطاع، تُشغّل مخبزًا متنقلًا، وتبدأ بإنتاج أرغفة ساخنة تُوزع على العائلات المنكوبة. قد يبدو خبز الطحين والماء عملاً بسيطًا، لكنه في غزة هو شريان حياة.

توجيهات ملكية مباشرة… وقرار بالتحرك لا بالتفرج

بتوجيهات من جلالة الملك عبدالله الثاني، دخل "المخبز الأردني المتنقل” إلى غزة في ديسمبر 2024، بدعم كامل من الهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية، وبالتعاون مع منظمة "المطبخ المركزي العالمي”. ومنذ ذلك اليوم، تحوّل هذا المشروع إلى ما يشبه المؤسسة الحيوية الوحيدة التي تُنتج الخبز في قطاع تُطوّقه المجاعة من كل الجهات.

يعمل المخبز 19 ساعة يوميًا، وبطاقة إنتاج تصل إلى 390 ألف رغيف أسبوعيًا، موزعة على المناطق الأكثر تضررًا والتي يكاد لا يصلها شيء. هذا الرقم ليس فقط مقياسًا للكمية، بل مقياسًا للعزم والالتزام، إذ لا يزال المخبز الوحيد العامل في غزة في ظل انهيار البنية التحتية وانعدام الوقود.

الأردن… دولة صغيرة بحجمها، كبيرة بأفعالها

ما يميّز المبادرة الأردنية أنها لم تنتظر مؤتمرات دولية أو حسابات سياسية معقّدة، بل تحركت على الأرض. في وقت تراجعت فيه استجابة الدول المانحة، واكتفى البعض بإصدار بيانات تنديد، دخل الأردن بثقله الإنساني إلى قلب الأزمة. لم يكتف بالمساعدات الغذائية أو القوافل الطبية، بل أوجد حلًا مستدامًا لتوفير أحد أهم عناصر الحياة: الخبز.

وليس هذا التدخل هو الأول من نوعه؛ فالأردن كان سبّاقًا منذ اندلاع الحرب على غزة في تقديم الدعم، حيث أرسل مئات الطائرات الإغاثية، وفتح المستشفى الميداني الأردني أبوابه رغم القصف، واستمر بإدخال المساعدات رغم المخاطر، فيما كانت دول كبرى تتذرع بعدم "توفر الظروف الآمنة”.

الخبز رسالة… والسيادة الأخلاقية موقف

في غزة، لا توجد محلات، ولا أفران، ولا كهرباء. المجازر تُرتكب علنًا، والأطفال يموتون جوعًا في مراكز الإيواء. في هذا الواقع، يصبح رغيف الخبز أكثر من مجرد طعام: إنه موقف سياسي وإنساني وأخلاقي، تقول فيه عمّان للعالم: "لن نترك إخوتنا يموتون بصمت”.

وإن كانت الأنظمة تُقاس بمواقفها في الأزمات، فإن الأردن اليوم يسجّل دورًا إنسانيًا مشهودًا على المستوى الإقليمي والدولي، عبر نهج واقعي لا شعاراتي. وهو بذلك يعيد تعريف معنى الدعم العربي الفعّال، القائم على الفعل لا الخطابة.

الناس لا ينسون… والتاريخ لا يمحو

سيأتي يوم تنتهي فيه الحرب، وستعود الذاكرة الجماعية الفلسطينية لتسجل من وقف معها في أسوأ لحظاتها. سيذكر الأطفال الذين أكلوا من خبز المخبز الأردني أن هناك من لم يخذلهم، ومن اعتبر جوعهم قضية أمن قومي وإنساني وأخلاقي.

في كل رغيف يخرج من المخبز الأردني المتنقل، هناك رسالة واضحة: أن قيمة الإنسان لا تسقط في الأزمات، وأن الدول لا تُقاس بمساحتها الجغرافية، بل بحجم ضميرها. والأردن، مرة أخرى، يثبت أنه في قلب الأمة، بفعل لا بضجيج