حاتم النعيمات
أعلن الرئيس الأمريكي عن مفاوضات مباشرة مع إيران، وأكد ذلك الرئيس الإيراني من طرفه، جاء ذلك بعد لقاء جمع نتنياهو بترامب في البيت الأبيض، وفي سياق اللقاء جرى الحديث أيضًا عن الخلاف الذي ظهر بين تركيا وإسرائيل (على سوريا).
كمية الصراحة التي تحدث بها الرئيس الأمريكي كانت مؤشرًا حقيقيًا على أن الثلاث دول (إيران، إسرائيل، تركيا) تتفاوض اليوم فيما بينها "بإشراف أمريكي” على النفوذ في المناطق العربية التي تعاني من تبعات ما سُمِّي بالربيع العربي ونتائج ما حدث في السابع من أكتوبر.
دعك من مجاملته لنتنياهو فهذا مفروغ منه، فقد أثنى ترامب على تركيا أيضًا، ومدح رئيسها وتاريخها الاحتلالي حيث قال حرفيًا لأردوغان: "لقد نجحتَ في ما عجز عنه الآخرون على مدى ألفي عام” والحديث هنا عن السيطرة على سوريا، لا بل إن ترامب نفسه قدّم نفسه كوسيط بين إسرائيل وتركيا لحل خلافهما الأخير على سوريا أيضًا، وفي ذلك، بطبيعة الحال، إقرار وشبه اعتراف من قبل الولايات المتحدة بشرعية سيطرة تركيا على بلد عربي مهم كسوريا!
ويكتمل الفصل الأخير من مشهد المجاملات عندما تحدث ترامب عن مفاوضات "حقيقية” مع إيران حول ملفها النووي، وهذا بالمناسبة مطلب إيراني بالأساس، تلقت طهران تنفيذه بسعادة بالغة، كيف لا، والمفاوضات جاءت بعد أن تنازلت طهران عن عدد من أذرعها في فلسطين ولبنان وسوريا برميها إلى التهلكة أمام ماكينة الحرب الإسرائيلية المدججة بالسلاح والذرائع على حدٍّ سواء.
الوضع الميداني اليوم بائس، ويفتح الشهية أكثر من أي وقتٍ مضى للحديث عن ترتيب المنطقة من وجهة نظر مصالح الدول الثلاث؛ سوريا ونصف ليبيا تحت السيطرة التركية، اليمن والعراق تحت النفوذ الإيراني، فلسطين وجزء من سوريا ولبنان تحت الاحتلال الإسرائيلي المباشر.
الحديث عن (التقسيمة) على جثث ودماء العرب بهذه الصراحة يجب أن يفتح الباب لأسئلة عميقة تخص التركيبة السياسية والأيديولوجية والاجتماعية في منطقتنا، فلكم أن تتخيلوا أن هذا الصراع بين هذه الدول الثلاث تحول اليوم إلى حوار هادئ على طاولة الأمريكان!، وذلك كله بعد أن خلّف ملايين الضحايا من أبناء المنطقة منذ 2011.
بصراحة، لو لم تجد تلك الدول الثلاث خصائص سياسية واجتماعية سهلة الاستغلال في المجتمعات العربية، لما استطاعت أن تنفذ كل هذه المباريات على أرضنا وبدمائنا. ومع ذلك لم يُطرح -لغاية اليوم- السؤال البديهي (لماذا نحن؟) تمامًا كما طرح اليابانيون سؤال (لما هُزمتا؟) بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية.
لو راجعنا الأحداث منذ 2011، لوجدنا أن هناك عنصرًا واحدًا رئيسيًا فاعلًا يظهر في جميع عمليات هذه الدول الثلاث في المنطقة، ألا وهو الحركات الإسلامية بنوعيها السنية والشيعية، فهذه الحركات لعبت دور المنفّذ لمآرب تلك الدول، سواء بقصد أو بدون قصد؛ في سوريا حاربت جماعات سنية نيابة عن تركيا ضد جماعات شيعية تنوب عن إيران، والمشهد النهائي هو سلطة سورية تابعة لأنقرة. في اليمن المعادلة ذاتها؛ حيث الحوثي الأقرب للشيعة والمدعوم من إيران يذهب باليمن إلى المجهول دون أي اعتبار لمصالح الشعب اليمني. في فلسطين قامت حماس السنية بدعم من إيران الشيعية بفتح جبهة مع إسرائيل دون أدنى حسابات منطقية، فأدى ذلك إلى احتلال غزة وجزء من سوريا ولبنان، ورفع مستوى السيطرة على الضفة الغربية، وارتفاع صوت إسرائيل في الحديث عن مشروع التهجير. في ليبيا شارك الإخوان المسلمون السنة في تقسيم ليبيا ووضع نصفها تحت الأمر التركي. أما في لبنان، فقد مارس حزب الله الشيعي ذات سلوك حماس، ليصل لبنان إلى ما هو عليه اليوم.
الكارثة ليست فقط في السيطرة الميدانية والنفوذ، بل هناك شكل آخر لتخادم هذه الجماعات مع الدول الثلاث، ويتمثل في خلق حالة إعلامية معادية لأي نظام عربي مستقر، بالأخص الأردن ومصر والسعودية والإمارات، وذلك من خلال ضرب علاقة شعوب هذه الدول المستقرة مع أنظمتها الحاكمة، وخلق ذهنية عامة جاهزة لأي سيناريوهات تطلبها الدول الثلاث مستقبلًا. كل هذا باستغلال العاطفة الدينية لدى شعوب المنطقة، وبمحاولة جعل الدم ومشاهد الدمار دافعًا للمزيد من الدم والدمار، وليس محركًا للنهضة العلمية والتطور وبناء الأوطان.
علاج هذه الجماعات بالأدوات السياسية والأمنية مهم، لكنه لم يُؤتِ أُكُله بالشكل المتوقع حتى اليوم، لذلك لا بد من مواجهتها فكريًا وإعلاميًا بالتوازي مع أي إجراء آخر. وأقصد بالضبط عدم السماح للأنظمة التعليمية والإعلامية بأن تؤسس البيئة الفكرية لهذه الجماعات - سواء بقصد أو بدون قصد - لأن ذلك يمهّدُ لإنتاج أفراد يَسهُل استغلالهم في تنفيذ مصالح الآخرين.
التاريخ لن يرحم تراخينا في هذه المرحلة المفصلية، فالتشخيص واضح، والعلاج معروف، ولكن نية التنفيذ هي محل النقاش. والتنفيذ هنا له وجهان: الأول، تعزيز التنمية الاقتصادية والبنى التحتية، والثاني، وهو ابعاد أدوات الشحن الفكري عن أيدي هذه الجماعات بوضع سلوكها وتاريخها على طاولة النقاش في جميع مؤسسات التنشئة وعلى جميع شبكات الاتصال والتواصل.