من واشنطن إلى الرياض: أزمة أوكرانيا بين صفعات التمويل الأمريكي و وعود الوساطة السعودية

نبض البلد -
من واشنطن إلى الرياض: أزمة أوكرانيا بين صفعات التمويل الأمريكي و وعود الوساطة السعودية

《 بقلم الدكتور محمد طه العطيوي 》

في خضمّ حربٍ تطحن أوكرانيا منذ اكثر من عامين، تبرز زيارة الرئيس فولوديمير زيلينسكي إلى السعودية كمحطة دبلوماسية تحمل أبعادًا متشابكة، تربط بين البحث عن دعم أمريكي مُترنح، واستغلال أدوار إقليمية قد تُخفف العزلة الدولية لكييف. لكن هذه الزيارة لا تنفصل عن السياق الأوسع لتصاعد التوتر بين زيلينسكي والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والذي تجلّى خلال الزيارة الأخيرة للأول إلى واشنطن، حيث انتهت اللقاءات بقطع جزء من المساعدات العسكرية وتهديدات بوقف التمويل. فهل تُشكل السعودية منفذاً جديداً لأوكرانيا، أم أن اللعبة السياسية أكبر من ذلك؟  

السعودية وساحة الدبلوماسية: وسيط أم منصة؟  

منذ بداية الحرب، سعت دول عديدة إلى لعب أدوار وساطة بين الأطراف المُتصارعة، ومنها السعودية، التي استضافت مؤتمرات ولقاءات بين الأوكرانيين والأمريكيين. لكن قراءة هذه الخطوة يجب أن تتم بموضوعية، بعيداً عن التمجيد أو التسطيح. فالدور السعودي، كغيره من الأدوار الإقليمية، لا يخلو من حسابات تتعلق بتحقيق مصالح متبادلة، أو تعزيز مكانة سياسية في النظام الدولي.  

اللقاءات التي عُقدت في جدة، والتي شملت وفداً أوكرانياً رفيعاً مع نظيره الأمريكي، تُظهر أن كييف تحاول استغلال أي منصة دولية لتعويض الدعم الغربي المتراجع، خاصة بعد تهديدات ترامب بوقف التمويل ما لم تلتزم أوكرانيا بشروط واشنطن. لكن السؤال الجوهري: هل تستطيع الرياض، أو غيرها من القوى الإقليمية، تعويض الفجوة التي قد يخلقها انسحاب أمريكي جزئي من المعادلة؟ الإجابة ليست بسيطة، فالدبلوماسية وحدها لا تُوقف دبابات.  

من أزمة واشنطن إلى مفاوضات جدة: أوكرانيا بين مطرقة التراجع الأمريكي وسندان الإصرار
  
لا يمكن فهم ضغط زيلينسكي للالتقاء بالمسؤولين الأمريكيين في السعودية دون الرجوع إلى الزيارة المُلتهبة لواشنطن قبل أسابيع، والتي كشفت عن شرخٍ عميق في العلاقة بين الزعيمين. فتعليق ترامب للمساعدات العسكرية كان رسالة واضحة لأوكرانيا: "التسوية أو العزلة". هنا، تحوّلت السعودية إلى ساحة بديلة لمحاولة كييف إقناع واشنطن باستمرار الدعم، أو على الأقل تخفيف شروطها القاسية.  
لكن التصريحات الأمريكية خلال اللقاء، خاصة تأكيد وزير الخارجية ماركو روبيو على أن "التنازلات ضرورية من الجانبين"، تُظهر أن واشنطن لا تزال تتعامل مع الأزمة بمنطق المُساومة، لا بمنطق الدفاع عن مبادئ السيادة الدولية. وهذا يتناقض مع الرواية الأوكرانية الرسمية التي تُحمّل روسيا وحدها مسؤولية استمرار الحرب.  

التسوية المُجحفة: هل تُكرّس الدبلوماسية واقعاً جديداً؟  

رغم الحديث عن "مقترحات واقعية" من الجانب الأوكراني، فإن الإصرار على ربط أي هدنة محتملة بـ "تنازلات متبادلة" قد يُشكل خطراً على المكاسب الإقليمية والسياسية لأوكرانيا. فروسيا، التي تحتلّ نحو 20% من الأراضي الأوكرانية، لن تتنازل عن ذلك دون ضمانات أمريكية ودولية تُكرّس هيمنتها. وفي المقابل، قد تضطر أوكرانيا لقبول شروط مجحفة تحت ضغط انهيار الدعم الغربي، خاصة إذا استمرت إدارة ترامب في استخدام المساعدات كأداة ضغط.  

هنا، تبرز إشكالية الدور السعودي: فاستضافة المحادثات قد تكون خطوة لإظهار الانفتاح الدبلوماسي، لكنها في الوقت نفسه قد تُسهم في تطبيع فكرة أن الحلول السلمية يجب أن تكون على حساب الطرف الأضعف. وهذا يتعارض مع مبادئ القانون الدولي الذي يفترض حماية سيادة الدول.  

أوكرانيا نموذجاً لضعف النظام الدولي  

لا تُختزل زيارة زيلينسكي إلى السعودية في بعدها الإقليمي، بل هي نموذج صارخ لأزمة النظام الدولي الذي فشل في وقف العدوان، وتحوّل إلى ساحة لمُساومات القوى الكبرى. فالدول الصغيرة، مثل أوكرانيا، تدفع ثمن صراعات ليست طرفاً فيها، بينما تتحول دماء شعوبها إلى عملة في صفقات جيوسياسية.  

الدرس الأهم الذي تُقدمه هذه الأزمة هو أن الدبلوماسية وحدها لا تكفي دون إرادة سياسية دولية حقيقية لفرض العدالة. فما حدث في جدة قد يُسجل كخطوة في مسار طويل، لكنه لن يغير حقيقة أن السلام الحقيقي يبدأ بوقف العدوان، لا بمساومات على حساب المظلومين.