د. أيوب أبودية

التعدين: أخطر النشاطات البشرية للبيئة

نبض البلد -
د. أيوب أبودية
يُعد التعدين أحد الأنشطة الاقتصادية الأساسية التي توفر الموارد اللازمة للصناعات المختلفة، بدءًا من بناء المنازل وصولًا إلى تصنيع الأجهزة الإلكترونية. لكن، على الرغم من أهميته في تلبية احتياجات الإنسان الحديثة، إلا أن التعدين يُعتبر واحدًا من أخطر الأنشطة البيئية التي تضر بكوكب الأرض بشكل كبير ويساهم في تلوث الهواء والتربة والمياه وصحة الانسان. هذه التأثيرات السلبية تؤثر على الكائنات الحية والنظم البيئية بشكل عام
أولًا: تلوث الهواء بسبب التعدين
تسبب عمليات التعدين، وخاصة التعدين المفتوح، بتلوث الهواء بشكل كبير. إذ يُعد الغبار الناتج عن الحفر والتفجير من أبرز مصادر تلوث الهواء في المواقع التعدينية. تتناثر جزيئات الغبار السامة مثل السيليكا والمواد الكيميائية الأخرى في الجو، وبعضها مشع. هذه المواد يمكن أن تتسبب في أمراض تنفسية وسرطانية خطيرة للعمال في مواقع التعدين، كما أنها تؤثر على صحة السكان القريبين من هذه المناطق.
أحد الأمثلة البارزة على هذا التأثير هو منجم "بوكسا" في الهند، الذي يُعد من أكبر المناجم المفتوحة لاستخراج الفحم. يتسبب هذا المنجم في إنتاج كميات هائلة من الغبار الذي يلوث الهواء المحيط بشكل مستمر. أظهرت الدراسات أن الجسيمات الدقيقة التي تنتج عن التعدين قد تصل إلى مستويات خطر عالية، مما يؤدي إلى تفشي الأمراض التنفسية مثل الربو والسل بين سكان المنطقة.
ثانيًا: تلوث التربة والمياه
تأثير التعدين على التربة يتنوع بشكل كبير حسب نوع المعدن المستخرج وطريقة التعدين المستخدمة. التعدين يمكن أن يؤدي إلى تدمير طبقات التربة الخصبة، ويُسهم في فقدان التنوع البيولوجي. فأثناء استخراج المعادن، يتم تدمير الغطاء النباتي الطبيعي، وتُصبح التربة عرضة للتعرية بسبب غياب الأشجار والنباتات التي تحافظ على تماسك الأرض.
في مناطق أخرى، مثل مناجم الذهب في أمريكا اللاتينية، يتسبب استخدام المواد الكيميائية للتعدين مثل الزئبق والسيانيد في تلوث التربة بشكل خطير. يُستخدم الزئبق في بعض الأحيان لاستخراج الذهب من الخام، ومع مرور الوقت يتسرب هذا المعدن السام إلى التربة مما يعرض الحياة البرية والنباتات للخطر. في بيرو، على سبيل المثال، يؤدي التعدين غير المشروع للذهب إلى تلوث مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية حيث يتسرب الزئبق إلى التربة، مما يجعلها غير صالحة للزراعة أو للعيش.
وتُعد الفوسفات من المعادن التي تُستخدم بشكل رئيسي في صناعة الأسمدة الزراعية. يُستخرج الفوسفات غالبًا من مناجم مفتوحة في مناطق متعددة حول العالم، مثل مناجم الفوسفات في المغرب، التي تعتبر من أكبر مناجم الفوسفات في العالم. ومع ذلك، فإن عمليات استخراج الفوسفات تترك آثارًا بيئية سلبية خطيرة. ويستخدم التعدين كميات ضخمة من المياه في عمليات التنظيف والفصل المعدني، وعادةً ما يتم تصريف هذه المياه الملوثة إلى الأنهار والبحيرات المجاورة. هذه المياه تحتوي على مواد سامة والمركبات الكيميائية الضارة.
من أبرز الأمثلة على تلوث المياه بسبب التعدين هو منجم "نهر النحاسي" في ألاسكا، حيث يُلقى المخلفات السامة الناتجة عن عمليات التعدين في مياه الأنهار المجاورة. هذا التلوث يؤثر بشدة على الحياة المائية ويعرض النظام البيئي للتهديد. وفقًا لدراسات بيئية، فإن تلوث المياه في هذه المنطقة أدى إلى انخفاض أعداد الأسماك بشكل كبير، مما أثر على حياة سكان المنطقة الذين يعتمدون على الصيد كمصدر رئيسي للرزق.
مثال آخر يأتي من نيجيريا، حيث تتسبب عمليات استخراج النفط في دلتا النيجر في تلوث خطير للأنهار والمياه الجوفية. تسرب النفط من الأنابيب والمحطات إلى المياه يخلق بيئة سامة تعرّض الحياة البرية والمجتمعات المحلية لمخاطر صحية شديدة.
 وفي مناطق تعدين اليورانيوم، يتم تصريف المياه المستخدمة في عمليات التعدين في الطبيعة، وهذه المياه تحتوي على تركيزات عالية من المواد المشعة، مما يتسبب في تلوث المياه على مدى سنوات طويلة. في بعض الحالات، يمكن أن يسبب التلوث الإشعاعي في المياه تلوثًا بيئيًا واسع النطاق، مما يؤثر على الحياة المائية والمجتمعات التي تعتمد على هذه المياه في حياتها اليومية. فمثلا موقع "منجم بيكرينغ" في أستراليا: يُعتبر من أحد أكثر المناجم التي أدت إلى تلوث المياه بالإشعاعات. وتتسبب المخلفات المشعة من عمليات استخراج اليورانيوم في تلوث مستمر للموارد المائية في المنطقة، كما هي الحال في مناجم شرقي ألمانيا.
 وكازاخستان تعد من أكبر منتجي اليورانيوم في العالم. بسبب نشاط التعدين المستمر هناك، أصبحت مناطق واسعة ملوثة بالإشعاع، بما في ذلك المياه الجوفية، التي تحتوي على مستويات عالية من المواد المشعة. يُعتقد أن هذا التلوث يسبب العديد من الحالات الصحية الخطيرة للعمال والمجتمعات المحلية.
  ثالثا: التأثيرات المتتالية على صحة الإنسان
تتعدد المخاطر الصحية التي قد يتعرض لها الإنسان نتيجة لتلوث الهواء والتربة والمياه بسبب التعدين. تتضمن الأمراض التنفسية مثل الربو والسرطان، وتسمم المياه نتيجة لتلوثها بالمعادن الثقيلة مثل الرصاص والزئبق. علاوة على ذلك، يمكن أن يؤدي استهلاك المواد الغذائية الملوثة بالمعادن السامة إلى تراكم هذه المواد في جسم الإنسان والحيوان والأسماك، مما قد يسبب مشكلات صحية طويلة الأمد.
وعلى الرغم من التأثيرات البيئية السلبية الكبيرة الناجمة عن التعدين، إلا أن هناك العديد من المبادرات التي تهدف إلى تقليل هذه الآثار. فقد تم تطوير تقنيات جديدة لاستخراج المعادن بطرق أقل ضررًا للبيئة، مثل استخدام مواد أقل سمية في العمليات التعدينية. كما أن العديد من الدول والمنظمات البيئية تدعو إلى تطبيق قوانين أكثر صرامة لحماية البيئة في مناطق التعدين. على سبيل المثال، تم تبني ممارسات التعدين المستدامة في بعض الدول مثل كندا وأستراليا، حيث يُطلب من شركات التعدين إجراء دراسات بيئية شاملة قبل بدء المشاريع وضمان أن عملياتهم تتماشى مع المعايير البيئية العالمية وموافقة السكان المحليين.
وبناء عليه، فإن التعدين رغم أهميته الاقتصادية، يعد من أخطر الأنشطة التي تضر بالبيئة. فالتلوث الناتج عن التعدين يشمل تلوث الهواء والتربة والمياه، وهو يؤثر بشكل مباشر على صحة الإنسان والنظم البيئية في جميع أنحاء العالم. فلا بد من تعزيز الوعي البيئي وفرض قوانين أكثر صرامة لضمان استدامة هذا النشاط وعدم تأثيره بشكل مضر على كوكبنا. وفي كثير من الحالات، خاصة في الدول النامية، وفي غياب التشريعات الكافية والرقابة الصارمة، تصبح تكلفة الاضرار البيئية والصحية على الدولة أكبر من أرباحها من التعدين.