صالح سليم الحموري

هل يمكن أن تكون الحكومة رشيقة؟

نبض البلد -
صالح سليم الحموري
خبير التدريب والتطوير
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية
في عالم متسارع الإيقاع تتزايد فيه التغيرات بشكل غير مسبوق، لم يعد مفهوم الرشاقة التنظيمية مجرد خيار إضافي، بل أصبح ضرورة حتمية تفرضها التحديات والفرص التي تلوح في الأفق. نشأ هذا المفهوم في بيئات قطاع التكنولوجيا والشركات الناشئة، حيث السرعة والمرونة شرط أساسي للبقاء. ومع ذلك، بدأ هذا المفهوم يشق طريقه نحو القطاع الحكومي، حيث تتطلب تعقيدات العمل وحجم المسؤوليات إعادة النظر في أساليب الإدارة التقليدية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يمكن للحكومات، بتشابك هياكلها وتعقيداتها البيروقراطية، أن تتبنى مبادئ الرشاقة التنظيمية وتحقق نتائج ملموسة؟
نعني بالحكومة الرشيقة هي تلك التي تتمتع بالقدرة على "التكيف السريع مع المتغيرات"، والاستجابة بكفاءة للتحديات، وتقديم خدمات مبتكرة للمواطنين بأسلوب سلس وسريع. لتحقيق ذلك، تحتاج الحكومات إلى التخلص من التعقيدات الإدارية التي تثقل كاهلها، والانتقال إلى "نموذج أكثر مرونة وفاعلية" يركز على تقديم قيمة مضافة للمواطنين.
الرشاقة الحكومية لا تعني فقط إعادة تنظيم الإجراءات، بل تشمل "إعادة تصميم العمليات بالكامل" لتصبح أكثر كفاءة وسرعة، مع تبني تقنيات حديثة وآليات عمل مبتكرة تُسرّع من اتخاذ القرارات وتحسين جودة الخدمات المقدمة.
وأن التحول نحو الرشاقة في العمل الحكومي يحمل في طياته العديد من الفوائد الحيوية. أولاً، يمكن للحكومات الرشيقة أن تتعامل بكفاءة مع الأزمات المفاجئة، سواء كانت أزمات صحية مثل الجائحة أو أزمات اقتصادية، من خلال اتخاذ قرارات مدروسة وسريعة. ثانيًا، تسهم الرشاقة في تحسين جودة الخدمات الحكومية، مما يعزز ثقة المواطنين في حكوماتهم. كما أن تقليل البيروقراطية وتبني أساليب مرنة في العمل يعزز الكفاءة ويوفر الوقت والموارد. وأخيرًا، تفتح البيئة الرشيقة المجال أمام الابتكار، حيث يتمكن الموظفون من طرح أفكار جديدة وتطبيق حلول غير تقليدية للتحديات القائمة.
الحكومات التي نجحت في تبني الرشاقة التنظيمية تقدم دروسًا عملية يمكن الاستفادة منها، وتالياً أمثلة على ذلك، "الإمارات العربية المتحدة" تعد مثالًا رائدًا في هذا المجال. من خلال مبادرات مثل "دبي الذكية"، تمكنت الحكومة من تقديم خدمات رقمية متكاملة تتيح للمواطنين والمقيمين الحصول على خدماتهم بسهولة وسرعة، دون الحاجة إلى معاملات ورقية. كما أظهرت مرونة كبيرة أثناء جائحة كوفيد-19 من خلال تبني نظام العمل عن بُعد.
أما إستونيا، فهي نموذج للحكومة الرقمية المتكاملة، حيث يمكن للمواطنين التصويت إلكترونيًا، تقديم الضرائب، والوصول إلى الخدمات الطبية بسهولة وأمان. في سنغافورة، يتم استخدام البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي لتحليل احتياجات المواطنين واتخاذ قرارات مستنيرة وسريعة، مما يجعل الحكومة أكثر استجابة للتحديات الطارئة.
في المملكة المتحدة، أطلقت مبادرة "الحكومة الرشيقة" التي تعتمد على فرق عمل متعددة التخصصات تطور الخدمات الحكومية بالتعاون مع المستخدمين النهائيين، مما يضمن تلبية الاحتياجات الفعلية للمواطنين. وفي أستراليا، يركز مفهوم "حكومة 2.0" على تعزيز الشفافية ومشاركة المواطنين في صنع القرار.
رغم النجاحات التي حققتها بعض الدول، إلا أن تطبيق الرشاقة في الحكومات يواجه عدة تحديات. منها "المقاومة للتغيير"، حيث قد يفضل الموظفون والإدارات الأساليب التقليدية خوفًا من التغيير. كذلك، فإن "التعقيدات البيروقراطية" تُعد عقبة كبيرة أمام المرونة. كما أن "نقص المهارات والكفاءات" اللازمة لتطبيق منهجيات العمل الرشيقة يشكل تحديًا إضافيًا. وأخيرًا، هناك "قيود تشريعية" قد تعيق الابتكار وتتطلب مراجعة مستمرة لتلائم التحولات الحديثة.
التحول نحو حكومة رشيقة يتطلب تبني "ثقافة تنظيمية داعمة" تشجع الابتكار والتجريب والتعلم المستمر. كما يجب إعادة تصميم العمليات لتصبح أكثر بساطة وفعالية، والاستثمار في التكنولوجيا لتحسين تقديم الخدمات. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي تدريب الموظفين على مهارات العمل الرشيق وبناء شراكات مع القطاع الخاص لتبادل الخبرات وتطوير الحلول المشتركة.
رغم التعقيدات التي قد تواجهها الحكومات، إلا أن التحول نحو الرشاقة ليس فقط ممكنًا، بل أصبح ضرورة ملحة لمواكبة تحديات العصر. الأمثلة العالمية من الإمارات وإستونيا وسنغافورة وغيرها تثبت أن تبني مبادئ الرشاقة يمكن أن يحدث فرقًا جوهريًا في طريقة عمل الحكومات.
في نهاية المطاف، تمثل "الحكومة الرشيقة" مستقبل الإدارة العامة، حيث تتماشى مع تطلعات المواطنين وتلبي احتياجاتهم بكفاءة وابتكار. الرشاقة ليست مجرد اختيار، بل هي الطريق الوحيد لضمان استعداد الحكومات لمواجهة تحديات المستقبل واستثمار الفرص في عالم دائم التغير.