أولا.. ( 2 ) نتنياهو على خطى "جابوتنسكي" ويحتفظ بسيفه
جزارون في "كيان" الدم
الانباط - عبد الرحمن ابوحاكمة
لم تكن الابادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الصهيوني في فلسطين وتحديدا منذ نحو خمسة عشرة شهرا "أول الدم" الفلسطيني.. بل سبقتها عشرات بل مئات المجازر والمذابح التي ارتكبها المحتلون الصهاينة منذ ما قبل عام النكبة 1948 حينما أعلن عن مولد الكيان الصهيوني على أرض فلسطين ...
قبل هذا التاريخ كانت عصابات الصهاينة قد قاموا بسلسلة من العمليات الارهابية والمذابح الدموية ضد الفلسطينيين والعرب لا تقل بشاعتها عن ما يجري حاليا في قطاع غزة "على الهواء مباشرة" من قتل للمواطنين الفلسطينيين العزل الذين من لم يمت منهم برصاص وقنابل الاحتلال مات عطشا او جوعا او بردا او مرضا او قهرا... ف حلقات الدم الصهيوني تواصلت منذ ما قبل وعد بلفور في عام 1917 وحنى اليوم وستستمر غدا وبعد غد.
نتنياهو و"الجدران الحديدية"
بعد رحيل "الرواد" الذين كان يطلق عليهم "ملوك اسرائيل"، امثال بن غوريون وموشي شريت وليفي اشكول وجولدا مائير وابي ابان وشمعون بيرس ومناحيم بيغن واسحق رابين وارئيل شارون، بات نتنياهو يمثل الراعي والحريص على المشروع الصهيوني في المنطقة والذي تشكل اسرائيل الاداة الوظيفية، ومع خلو الكيان من قيادته الرمزية يطمح نتياهو بأن يكون احد الرموز المخلصة لوصايا زئيف جاوبتنسكي -مؤسس معسكر اليمين الصهيوني المتشدد- في تحقيق الحلم الصهيوني، حيث يرى انه الخلف القانوني والسياسي للحركة الصهيونية الاصلاحية بقيادة جاوبتنسكي الذي سبق ان طرح نظرية الجدران الحديدية عام ١٩٢١ لاتمام المشروع الصهيوني وضمان وجوده، وتقوم على الردع العنيف والحسم بنقل المعركة على ارض العدو، وهو الطريق الذي انتهجه قادة صهاينة ومنهم نتنياهو في حروبهم مع العرب لبث اليأس لدى العرب لكي يقروا بالامر الواقع الوجودي ل اسرائيل وان تبرم اتفاقيات ما يسمى ب السلام معها لتعترف بوجودها وبقاءها.
ووصل الحال ب نتنياهو انه يكرر في خطاباته ذكر زئيف فلاديمير جابوتنسكي، ويقدمه على أنه ملهمه ومرشده الروحي، وأنه يحتفظ بسيفه ويقرأ أعماله بشكل دائم.
ومنذ سيطرة "الليكود" على الحكومة، يخصص الكيان يوما كل عام لإحياء ذكراه، وأطلقت اسمه على مراكز وشوارع. ويرى إرن كابلان رئيس قسم الدراسات الإسرائيلية في جامعة سان فرانسيسكو في بحث نشره بعنوان "لمحة عن الأيديولوجية التي توجه نتنياهو"، أن الحرب الإسرائيلية المميتة التي تحولت إلى كارثة إنسانية على الفلسطينيين في غزة تعكس أيديولوجية تُعرف باسم "الجدار الحديدي" أطلقها جابوتنسكي في عشرينيات القرن الماضي، وشكلت الملهم الأساسي لنتنياهو طيلة مسيرته في الحكم.
أما الكاتب الأميركي المختص في الشؤون الدولية زاك بوشامب فيرى في مقال نشره بعنوان "الأفكار التي تحدد شخصية نتنياهو" أن مواقفه المتشددة، سببها انتماؤه إلى التيار الصهيوني الأقدم والأكثر تشددا الذي نشأ على يد جابوتنسكي.
ويضيف أن جابوتنسكي الذي ولد في أوديسا بأوكرانيا الحالية (روسيا آنذاك) 1880، أنتج رؤية فكرية تمخضت فولدت في نهاية المطاف حزب الليكود وسياساته المتشددة التي ينتهجها،
ويتفق دارسون وخبراء في الشأن الصهيوني ايضا على أن سياسات نتنياهو التي لا تصغي لأي معترض، وإيمانه بالضغط العسكري والسحق والتدمير وسيلة وحيدة لتحقيق الأمن لإسرائيل، هي تجسيد حرفي لأفكار مرجعه جابوتنسكي.
ويؤكد الباحث السياسي اليوناني يورغوس ميترالياس في مقال له أن ما يفعله اليوم حكام إسرائيل ليس نتاجا للارتجال ولا اختراعا وليد اللحظة. فنتنياهو الذي حطم الرقم القياسي في رئاسة الليكود وإسرائيل -حسب ميترالياس- هو نسل حقيقي للرحم "الفاشي" الذي أنجب بيغن وشامير وغيرهما، بل إن لديه علاقة مباشرة وحتى عائلية مع الأجنحة الفاشية الأكثر تطرفًا، التي ألهمها وأنشأها وقادها جابوتنسكي قبل قرن.
ويوضح ميترالياس أن قادة الليكود بأفعالهم الشنيعة لا يأتون بشيء جديد، فهذا ما كانت تُبَشَّر به المنظمات التي نشؤوا فيها وما زالوا يفتخرون بها، وهي المنظمات الإرهابية والفاشية (بيتار وإرغون وشتيرن).
وكان جابوتنسكي قد لخص مشروعه السياسي ضد العرب منذ مطلع القرن الماضي في كتابه "جدار الفولاذ- 1923" بما يلي:"لا يمكن أن يكون هناك مجال لمصالحة إرادية بيننا وبين العرب.. إن لدى كل عربي فهماً شاملاً وكاملاً لتاريخ الاستعمار وليحاول أحد أن يجد بلداً تحقق فيه الاستعمار بموافقة سكانه الأصليين، كل شعب يقاتل المستعمرين حتى آخر بريق أمل، وسيقاتل الفلسطينيون كذلك إلى أن لا يعود أمامهم أي لمحة أمل، والنتيجة المنطقية لذلك هي أنه لا يمكن تصور أي اتفاق طوعي بيننا، إن على كل عملية استعمار أن تستمر، ولا يمكنها أن تستمر وتنمو إلا بحماية سور من القوة، أي جدار فولاذي لا يستطيعون اختراقه..هذه هي سياستنا العربية ، وليس التعبير عنها بأية صيغة أخرى إلا نوعاً من التخابث والنفاق".
ما بين جابوتنسكي في جداره الفولاذي قبل نحو مئة عام وجدر نتنياهو التي تحيط بالكيان اليوم نرى شبه الاجماع السياسي والايديولوجي الصهيوني على التمسك بفلسفة "الجدار" وتعني التطهير العرقي والارهاب والمجازر والعنصرية الفاشية.
وبما ان جاوبتنسكي اعتبر بمثابة الزعيم الفكري لحزب الليكود الذي تشكل عام ١٩٧٣ بائتلاف ثلاث احزاب اهمها "حيروت" المنبثق عن منظمة شتيرن الارهابية فان الليكود وزعيمه نتنياهو يسعى لمواصلة سياسة الردع لاستمرار تدفق الهجرة اليهودية التي تحمي المشروع الصهيوني واستمرار وتوسيع اتفاقيات التطبيع مع المحيطه العربي وحتى الاسلامي ليضمن الامن للمشروع الصهيوني وترسيخ نفوذ الكيان بكل المستويات.
التاريخ .. دورة متكررة
ويرى الباحث المجري المختص في التاريخ اليهودي لازلو بيرنات فيسبريمي أن نتنياهو باعتباره أيضا ابن مؤرخ متخصص في التاريخ، يؤمن بأن التاريخ اليهودي عبارة عن دورة متكررة من محاولات تدمير اليهود من الرومان إلى محاكم التفتيش الإسبانية، إلى النازيين، إلى العالم العربي. ويشير فيسبريمي في دراسة بعنوان "جابوتنسكي المنظر الفكري لسياسات الليكود" إلى أن من المفارقة أن نتنياهو يستغل اليمين الديني المهيمن لتقوية حكمه، رغم أن الخلفية الفكرية ل الليكود صهيونية علمانية يمينية تعرف باسم "الصهيونية التصحيحية"، وتأسست عام 1925 على يد جابوتنسكي.
ولا يعني مصطلح "التصحيحية" هنا ما تستحضره الكلمة في الذهن من مراجعة للأفكار والميل نحو المرونة والاعتدال، بل إنها -كما يوضح الدارسون- تدل على صهيونية أكثر تشددا.
فبحسب فيسبريمي، فإن المقصود بالتصحيحية هنا هو انتهاج خط أكثر تشددا يوسع دائرة الخصوم والأعداء لتشمل البريطانيين الذين ساعدوا اليهود أصلا على خلق كيان لهم في فلسطين، إذ إن الصهيونية التصحيحية ترفض أن البريطانيين يقبلون أن يكون هناك نصيب للعرب سكان الأرض الأصليين. واعتبر أصحاب هذه الحركة -التي ولد الليكود من رحمها- بريطانيا عدوا لهم واستهدفوها، بل إن العصابات -التي شكلها قادة تلك الحركة خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين لطرد الفلسطينيين من ديارهم- وسًعت من هجماتها لتشمل قوات الاحتلال البريطاني وحتى بعض قادة الصهيونية من الطرف الآخر الذي قبل بتقسيم فلسطين، مثل حاييم أرلوزوروف الذي قتل عام 1933 واتهم بعض أتباع جابوتنسكي باغتياله.
وكان جابوتنسكي يرى أنه يجب أن تمتد الدولة اليهودية إلى حدودها التوراتية، وهو صاحب المقولة "لنهرِ الأردن ضفتان، هذه لنا، وتلك أيضا".
ويرى الكاتب الأميركي بوشامب أن رؤية جابوتنسكي تستند إلى فرضية مفادها أن الحياة اليهودية محفوفة بالمخاطر بطبيعتها. لذا يعتبر نتنياهو أن قوة إسرائيل نابعة من"الجدار الحديدي"، الذي يعني قوة عسكرية ساحقة تضمن البقاء للدولة اليهودية وتجبر العرب على قبولها.. ويعتبر الباحثون أن تطبيق نتنياهو لرؤية جابوتنسكي واضح، سواء من ناحية تكثيف الاستيطان ورفض التنازل عن أي شبر من الأراضي في الضفة الغربية التي يراها أرضا يهودية، أو من خلال سياسة التدمير والقوة الساحقة في قطاع غزة.
ويرى كابلان أن نتنياهو عمل على قتل اتفاقيات أوسلو، واعتبر عملية السلام مع العرب نوعا من التسوية السلمية التي حذر منها جابوتنسكي لأنها تعني إظهارا للضعف الذي سيؤدي باليهود إلى الهلاك. ويعتبر أن الحل الوحيد بالنسبة لجابوتنسكي هو دولة يهودية قوية ترفض أي تنازلات، وتحدد التهديدات التي يواجهها الشعب اليهودي وتتصدى لها باستعراض ساحق للقوة.
ويؤكد فيسبريمي أن أتباع جابوتنسكي أنفسهم كانوا يصفونه بـ"موسوليني اليهود"، وأن فلاديمير وصف نفسه الفاشية بأنها "كيان يعمل وفقا لقيادة مركزية واحدة في لحظة واحدة، ويتحول بفخر إلى آلة، نعم، آلة". وعلى هذا الأساس كان جابوتنسكي يشكل عصابة من مئات اليهود، يلبسهم زيا موحدا ويستعرضهم أمامه في موكب منتظم، حيث يبدون في خطواتهم وتحركاتهم وكأنهم آلة.
ويعتبر ميترالياس أنه من المفارقة أن جابوتنسكي وبدافع كراهيته للثورة الروسية تحالف مع قتلة اليهود مثل زعيم الحرب الأوكراني سيمون بيتليورا. وأكثر من ذلك، بحسب ميترالياس، تحالف ايضا مع زعيم الفاشية الإيطالي موسوليني الذي نقل عنه ميترالياس قوله عام 1935 موجها كلامه لديفيد براتو حاخام روما "إذا كنت تريد أن تنجح الصهيونية، فأنت بحاجة إلى دولة يهودية وعلم يهودي ولغة يهودية والشخص الذي يصلح لذلك هو جابوتنسكي".
ويشير ميترالياس إلى أن نتنياهو وحكومته يبذلون قصارى جهدهم للتأكيد على ما لاحظه ألبرت أينشتاين وندد به عام 1948 من أن "بيغن وأصدقاءه في الليكود -نتنياهو وريثهم الأيديولوجي- فاشيون عنصريون مجرمون وإرهابيون وسيقودون إسرائيل حتمًا إلى تدميرها النهائي".
وأورد ميترالياس نص رسالة نشرها اليهودي أينشتاين في نيويورك تايمز في 2 ديسمبر/كانون الأول 1948 احتجاجا على زيارة بيغن لأميركا، واعتبر فيها أن حزب "هيروت" -الذي أنشأه بيغن و سمي لاحقا الليكود- يشبه في تنظيمه وفلسفته السياسية الأحزاب النازية والفاشية، وتشكل من أتباع منظمة أرغون الإرهابية الشوفينية.
ويخلص الكاتب إلى أنه يبدو من الواضح أن أينشتاين كان على حق، فأحفاد "المنظمات الإرهابية" لعام 1948 يقودون إسرائيل نحو "التدمير النهائي". ويضيف "قد تبدو إسرائيل اليوم أكثر قوة وغطرسة من أي وقت مضى، لكنها في الواقع تعيش أسوأ أزمة وجودية في تاريخها، فهي تتعفن وتتفكك من الداخل، وقد بدأ العد التنازلي واقتربت ساعة الحقيقة".
ومما عزز إعجاب نتنياهو بجابوتنسكي وفكره أن أباه المؤرخ اليهودي بن صهيون نتنياهو كان جابوتنسكيًّا أيضا، بل كان أحد نواب جابوتنسكي الشخصيين. كما انه يعتقد ويؤمن بأنه الوارث الحقيقي لوصايا جاوبتنسكي ويفتخر بان والده من حمل كفنه عند دفنه.