نبض البلد - "الإنسان هو الموقف”
أ.د. سلطان المعاني
تنهض المجتمعات على سيرة رجال ونساء امتلكوا القدرة على اتخاذ المواقف الصعبة في اللحظات التي يُختبر فيها المعدن الحقيقي للإنسان. وتذبل المجتمعات حين تتصدر واجهتها وجوه تتمايل مع اتجاهات القوى، وتنساق خلف ما يريحها، وتتوارى حين يحين وقت الكلمة الحاسمة. وحين يُقال إن الرجل هو الموقف، فإن العبارة تحمل تاريخاً من التجارب الإنسانية التي أثبتت أن الشخصية الحقيقية لا تُقاس بالمناصب ولا بالألقاب، وإنما تُقاس بصلابة المبدأ حين يتكاثر الضجيج من حوله.
تبدأ الحكاية من تلك الدائرة الصغيرة في الداخل، دائرة الضمير الذي يوجّه خيارات الإنسان قبل أن يوجّه الناس. فالشخص الذي يحمل موقفاً واضحاً لا يحتاج إلى غطاءٍ أو تمويه أو مرجعية تُنوب عنه. يقف لأنه قرّر أن يقف، ويمضي لأنه أدرك أن التردّد يترك ندبة في الروح قبل أن يتركها في صفحات التاريخ. الموقف قوة داخلية، طاقة تشي بقدرة عالية على إدراك اللحظة واستيعاب سياقها، ومعرفة ما يتطلبه الزمن من شجاعة ومسؤولية. ومن لم يدرّب نفسه على حمل المسؤولية في اللحظات الصغيرة لن يستطيع حملها في اللحظات الكبرى.
تنشأ الأخطاء عندما نقدّم من لا يملك هذه القدرة على اتخاذ الموقف. يحدث هذا حين نُغري أنفسنا بحُسن الظن المفرط أو نبحث عن الراحة في اختيار من لا يُثير الجدل ولا يطالبنا بالمراجعة. غير أن القائد الحقيقي، في أي مستوى، ليس ذاك الذي يُرضي الجميع، وإنما مَن يقدر على بناء قناعة راسخة، والعمل وفق رؤية واضحة، والتحمّل الكامل لنتائج قراراته. يخطئ الإنسان في اختياراته، وهذا أمر طبيعي، ومن حقه أن يُخدع، ومن حق الآخرين أن يُظهر الزمن حقيقتهم. ومن واجب من يتصدّى للمسؤولية أن يختبر نفسه قبل أن يختبر الآخرين.
وحين نتحدث عن "الرجل هو الموقف"، فنحن نتحدث عن الإنسان القادر على حمل قراره من دون أن يتكئ على تقارير تُكتب له، أو ملاحظات ينسخها عن الآخرين، أو أشخاص يضعهم في الواجهة ليحمّلهم وزر قرار لم يتخذه أحد سواه. صاحب الموقف لا يختبئ خلف أحد. يدرك أن القرار قرارُه، وأن تبعاته جزء من مسار شخصيته وجزء من تربيته الأخلاقية. يُدرك كذلك أن الناس تنظر إلى القائد كما تنظر إلى مرآة، فإن هاب الوقوف هاب الناس، وإن تردّد ارتبكوا، وإن اتخذ موقفاً ثابتاً وسط العاصفة اتسق المشهد كله.
النفوس التي تُبنى على محبة الواجب تعرف أن الموقف ليس صراخاً ولا ادعاءً ولا بحثاً عن بطولة. هو لحظة صفاء يلتقي فيها العقل مع الضمير، وتتجلى فيها المعرفة الحقيقية بالذات. الموقف قد يكلّف صاحبه كثيراً، وقد يعرّضه للنقد أو سوء الفهم أو الخسارة الآنية، لكن الخسارة الأكبر هي خسارة الصورة الداخلية للإنسان حين يتنازل عن قناعته من أجل راحة أو مكسب مؤقت. والذين مرّوا في التجارب الكبرى يعرفون أن المواقف الحقيقية لا تنتهي بانتهاء الحدث، وإنما تصبح جزءاً من السيرة التي تُروى، وجزءاً من القيم التي تُزرع في الأجيال.
تتقدّم الأمم حين يتقدّم أصحاب المواقف. هؤلاء الذين يعرفون أن منصبهم ليس وسادة، وإنما امتحان يومي. لا يحتمون بالورق، ولا يطلبون من غيرهم أن يحمل عنهم مسؤولية كلمة، ولا يختبئون خلف اللجان. يتحرّكون بدافع الإيمان بالمصلحة العامة، ويستندون إلى معرفة واسعة وتجربة متراكمة وإرادة واعية. يتحدّر قرارهم من قراءة دقيقة للمشهد، ومن فهمٍ عميق لحركة المجتمع ومتطلباته وتحدياته. وحين يواجهون عواصف الاختلاف، لا يتراجعون ولا يخاصمون، يمضون بثباتٍ يؤكد أنهم اختبروا الفكرة وأدركوا تبعاتها.
المجتمع بدوره يتحمّل مسؤولية كبرى في هذا السياق. فحين يسأل من يثق بنا: "من نختار؟"، لا يجوز أن نقوده نحو شخصية لا تمتلك حس القرار، أو نرشّح من يبحث عن الواجهة دون أن يمتلك القدرة على الوقوف. الاختيار أمانة، والاقتراح أمانة، والتزكية أمانة. والسهو في هذا الباب يفتح الباب للضعفاء كي يقدّموا أنفسهم على أنهم أهل للموقف، ثم ينكشف الزمن عن هشاشة داخلية لا تُرى من أول نظرة. ومع ذلك، من حق الإنسان أن يجتهد ثم يتبيّن له أنه اختار من لم يكن أهلاً لذلك. هذا جزء من التجربة، وجزء من طبيعة البشر، وجزء من حكمة الحياة التي تُعلّمنا من خلال أخطائنا قبل نجاحاتنا.
ومن المهم أن نفهم أن قوة الشخصية ليست جهراً ولا صخباً. هي سكينة في القلب، وثقةٌ هادئة، وقدرةٌ على ضبط الذات. هي اتساع في الرؤية، ومهارة في إدارة اللحظة، وقيمة في احترام القرار. الشخص القوي لا يعتمد على مقولات الآخرين، ولا يطلب منهم أن يقرّروا عنه، ولا يدفع من هم دونه ليحملوا وزر ما يجب أن يحمله هو أمام ضميره قبل أن يحمله أمام الناس. الموقف أمانة، والمسؤولية أمانة، والقرار الذي يصنع أثراً لا يُصنع بالتردد ولا بالاتكاء على غير المؤهلين.
هذه الفكرة، بعمقها الأخلاقي، تدفعنا إلى مراجعة أنفسنا، لا لمحاسبة أحد، وإنما لفهم ما الذي يصنع صلابة الإنسان وما الذي يجعل شخصيته لبنة حقيقية في بناء المجتمع. وحين يتقدّم الزمن وتتواضع العقول أمام عظمة التجربة الإنسانية، يتبيّن لنا أن الذين تركوا أثراً لم يكونوا الأكثر ضجيجاً، ولا الأكثر إرضاءً للناس، وإنما الذين وقفوا في اللحظة الصحيحة، بالكلمة الصحيحة، وبالإرادة التي لا تهتز.
الرجل هو الموقف، والمرأة كذلك. والإنسان الذي يملك الموقف يملك نفسه، ومن يملك نفسه يستطيع أن يمنح مجتمعه قدراً من الثبات والتوازن والاتساق، وهذا كل ما تحتاجه الأوطان حين يلتبس الطريق وتتعدد الأصوات.