نبض البلد - الخواصر الرخوة
د. عامر بني عامر
في الإقليم الذي نعيش فيه، لم يعد الاستهداف العسكري وحده هو الخطر، بل باتت المعركة تدور حول ما يُسَمّى بـ"الخواصر الرخوة" في الدول وهي تلك المناطق أو الفئات المجتمعية أو القضايا أو المؤسسات التي يمكن النفاذ منها لزعزعة الاستقرار الداخلي. إنها الحرب التي لا تُطلق فيها رصاصة، لكنها تزرع الشك، وتبث الفوضى، وتفتح الأبواب لمن ينتظر فرصة التدخل.
منذ سنوات، نرى في الجوار العربي كيف تبدأ القصة: قضية محلية صغيرة، مطلب اجتماعي أو خطاب تعبوي باسم العدالة أو الدين أو الكرامة… ثم تتحول شيئًا فشيئًا إلى كرة ثلج، تُصنع لها قيادات ومؤثرون، وتُغذّى من الخارج والداخل، حتى تنفجر، حدث ذلك في عدة دول عربية وغير عربية، وما زال يحدث، حيث تحولت تلك الخواصر إلى جبهات مفتوحة لا تُغلق بسهولة.
في الأردن، نحن لسنا بمنأى عن هذه المحاولات، بلدنا مستهدف لأنه ثابت في زمن الاضطراب، ومتماسك في محيطٍ يتفكك، لكن هذا لا يعني أننا بعيدون عن محاولات الاختراق، فالخواصر الرخوة لا تُخلق صدفة، بل تُصنع أو تُغذّى، قد تكون فئة اجتماعية تعاني تهميشاً، أو منطقة تعاني ضعفاً في التنمية، أو حتى تياراً اجتماعياً أو سياسياً أو إعلامياً تُمنح له مساحة أكبر مما يستحق، ليصبح لاحقاً منصة لتمرير رسائل لا تخدم الوطن.
الأشكال كثيرة: فئات تعيش ضيقاً اقتصادياً تُستغل لتأليب الشارع، مؤثرون يتم تجنيدهم لزرع خطاب تشكيكي، أو حملات إلكترونية تُضخّ فيها أموال لتأجيج الغضب، وهناك أيضاً "الخواصر الفكرية" وهي تلك الخط الفاصل بين حرية الرأي والانفلات، بين النقد المسؤول والتحريض، بين الوعي والعبث.
الحذر المطلوب اليوم ليس من المواطن، بل من الذي يحاول استخدامه، ومن يقرأ المشهد الإقليمي جيداً، يدرك أن ملف غزة لن يُغلق قريباً، وأن المرحلة المقبلة ستكون أكثر تعقيداً؛ فما بعد غزة لن يكون صراعاً بين طرفين فلسطيني وغير فلسطيني، بل على الأرجح حرباً داخلية على تستند إلى الخواصر الرخوة نفسها، داخل غزة ذاتها، في اقتتالٍ فلسطيني–فلسطيني للأسف، وهناك قوى ليست بالبعيدة لن تهدأ حتى تُعيد إنتاج الفوضى في بقية المنطقة، مستخدمةً أدوات جديدة وأساليب أكثر نعومة.
في الحالة الأردنية، الأمن وحده لا يفي بالغرض، والسياسة وحدها لا تكفي، المطلوب أن يكون السياسي على مستوى الوعي ذاته الذي يعمل به الأمن، وأن تكون قرارات القيادات السياسية مهنية، مرنة، وسريعة التنفيذ كما في الأجهزة الأمنية، وإلى جانب هذا التماثل العملي، تبقى سيادة القانون ومؤسسات الدولة العميقة — القضائية والإدارية والأمنية — هي التي تسدل الستار على كل محاولة لخلق فوضى منظمة، فبغير سيادة قانون فاعلة، لا توجد حصانة حقيقية ضد أي محاولة لاستغلال نقاط الضعف في الداخل.
الأردن، بحكمته التاريخية ووعيه السياسي، أثبت مراراً أنه قادر على تجاوز الأزمات دون أن يفقد بوصلته الوطنية، لكن البقاء في منطقة الأمان لا يكون بالصدفة، بل بالعمل الدائم على ترسيخ الثقة بين الدولة ومواطنيها، وردم أي فجوة يمكن أن ينفذ منها من يريد الشرّ.
لقد علّمتنا تجارب الآخرين أن الفوضى لا تحتاج إلى تسليح، بل إلى غفلة، ولهذا، فإن حماية الأردن اليوم تبدأ من الانتباه لكل تفصيل، ومن وعيٍ كافٍ بنقاط الضعف الممكنة، حتى نمنع الخطر قبل أن يحدث، وأيّ صوت يزعم أننا بمنأى عن هذه الخواصر عليه أن يعيد النظر في طريقة تفكيره في هذه المرحلة الحساسة، لأن القادم في ظل التحولات الجيوسياسية ليس بالسهل بل قد يكون من أصعب اللحظات التي تمر على المنطقة برمتها، وأخيراً فالوطن ليس خاصرة لأحد، بل قلب صلب لا يُطعن إلا إن غفلنا عن حمايته.